المسافرون نحو الهاوية

المسافرون نحو الهاوية

المغرب اليوم -

المسافرون نحو الهاوية

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

ذات يوم اتخذ رجل اسمه صدام حسين قراراً كبيراً وشديد الخطورة؛ أمَرَ قواته باجتياح الكويت وتوجَّه إلى البصرة للإشراف على التنفيذ. امتنع أيضاً خلال ذلك النهار عن الرد على الاتصالات التي رمَت إلى تدارك الاندفاع نحو الهاوية. روى لي أحد الذين عملوا في قصر الرئاسة العراقي قصة تلك الأيام العصيبة. تذكر كيف عاد طارق عزيز من اجتماع القيادة القُطرية أسود الوجه ومثقلا بالقلق. قال عزيز إنه حاول في اجتماع القيادة القُطرية للحزب لفت النظر إلى الأخطار التي يمكن أن تترتب على قرار ضم الكويت وعدّها محافظة عراقية. وأضاف أن صدام التزم الصمت إبان المناقشات موحياً بأن الحاضرين شركاء في القرار. ضاع صوت عزيز بين أصوات المزايدين واتُّخذ القرار الذي أدمى الكويت وبعدها العراق ودفعت المنطقة ثمنه باهظاً.

تذكرتُ رواية العامل في القصر العراقي وأنا أتابع احتفالات «الحلفاء» بالذكرى الثمانين لإنزال النورماندي الشهير الذي كان محطة فارقة في الحرب العالمية الثانية. امتنع المحتفلون عن دعوة فلاديمير بوتين إلى المناسبة رغم الثمن الهائل الذي دفعه الاتحاد السوفياتي في المواجهة التي أدت إلى دحر النازية. أكدت الاحتفالات أن العالم يعيش اليوم مرحلة هي الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية. هذه الأيام أخطر من المناخات التي رافقت الحرب الفيتنامية والحرب الكورية، ولعلها أخطر من أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت تضع أميركا والاتحاد السوفياتي أمام وجبة نووية مدمرة.

أعرف تماماً أن روسيا ليست العراق. وأن فلاديمير بوتين ليس صدام حسين. وأن ترسانة «جيش صدام» لا تقارَن لا من قريب أو بعيد بترسانة «الجيش الأحمر» في طبعته البوتينية. هذه المرة المسرح أخطر واللعبة أخطر. ليس بسيطاً أن يُقتَل جندي روسي على أرض بلاده بقذيفة أميركية أطلقها الجيش الأوكراني بموافقة واشنطن. وأن يُقتل جندي روسي بقذيفة من دبابة ألمانية الصنع. وليس بسيطاً أن يحوِّل بوتين ومساعدوه حديث الأسلحة النووية صحناً عادياً موضوعاً على مائدة العالم. والأمر نفسه حين يقول سيد البيت الأبيض إن زعيم روسيا «رجل غير محترم وديكتاتور»، وإنه «لن يتوقف في أوكرانيا»، وإن بلاده ليست في وارد التخلي أبداً عن بلاد زيلينسكي الذي احتضنه المشاركون طويلاً كأنهم يقدمون الضمادات لانتكاسات جيشه الأخيرة.

مرة جديدة. بوتين ليس صدام حسين. وروسيا ليست العراق. لكن هل اعتقد سيد الكرملين أن الغرب سيقف عاجزاً وسيسارع إلى محاولة إقناعه بقبول جائزة متواضعة؟ جيشه يتقدم في الأراضي الأوكرانية، لكن هل يستطيع فرض الاستسلام على أوكرانيا ما دام الغرب يضخّ المليارات والأسلحة في عروقها؟ وماذا عن يقظة لغة المحارب لدى جنرالات بلدان «الناتو» والحديث أن الحرب مع روسيا آتية مهما تأخرت؟ وماذا لو قرر الجالس على عرش ماو تسي تونغ تتويج مسيرته باستعادة تايوان أو إحكام الحصار الخانق حولها؟ هل يستطيع العالم احتمال هذا السير المتسارع نحو الهاوية؟ لا يمكن إنكار أن الغرب أساء التصرف مع روسيا الخارجة من الركام السوفياتي. بالغَ في تحريك بيادقه باتجاه حدودها وأيقظ لدى جنرالاتها عُقدة الحصار القديمة. لكن العالم يتخبط اليوم في الفخ الأوكراني المفتوح على كل الأخطار.

كنا نتابع أصداء الاحتفالات بالذكرى الثمانين لإنزال النورماندي حين أطلّت المجزرة المروعة في مخيم النصيرات. لم يعد إحصاء المجازر الإسرائيلية سهلاً. ولم يعد ممكناً العثور في القاموس على كلمات تعبِّر عن نهر الوحشية المتدفق على أرض غزة. النكبة الحالية أشد هولاً من النكبة الأولى التي وضعت الشرق الأوسط على خط الزلازل قبل سبعة عقود. أخطر بكثير وعواقبها أشد. إنها تشير ببساطة إلى ما يمكن أن ينتظر غزة إذا ما تعثرت «خطة بايدن» ورجحت كفة الحرب الطويلة المفتوحة. خطورتها تكمن في أن نجاح المؤسسة العسكرية والأمنية في إطلاق أربعة من الأسرى قد يُغريها بتكرار المحاولات، وهو يعني تكرار الأهوال والمجازر.

لا جدال في أن إسرائيل هي المسؤول الأول عن عودة الوضع الفلسطيني إلى الانفجار. أغلقت كل النوافذ التي فُتحت في اتجاه السلام من «اتفاق أوسلو» إلى «مبادرة السلام العربية». لنترك جانباً التحليلات التي تتعلق بالبُعد الإقليمي لـ«طوفان الأقصى» وتوقيته وعلاقته بمسار التطبيع في المنطقة والدور الإيراني في الإعداد لـ«الطوفان»... هول المجازر المرتكَبة لا يسمح اليوم بمثل هذا النوع من النقاشات.

مجزرة مخيم النصيرات رهيبة. سنشهد كثيراً منها إذا تعذَّر وقف الحرب وإطلاق عملية تبادل الرهائن والأسرى. إذا رجح خيار الحرب الطويلة المفتوحة قد يكون «اليوم التالي» رهيباً. هل يمكن ضبط حدود الحرب إذا اختارت الآلة العسكرية الإسرائيلية سحق «حماس» بغضَّ النظر عن الثمن؟ وهل يمكن الاستمرار في الحديث عن «قواعد الاشتباك» بين إسرائيل و«حزب الله» إذا تقدمت إسرائيل في عملية قطع «الضلع الفلسطيني» في «محور المقاومة»؟ وماذا عن إيران إذا توسعت الحرب؟ وهل كان السنوار يعتقد أن «الطوفان» سيؤدي إلى حرب طويلة؟ وهل كان فعلاً شرارة حرب استنزاف محدودة؟ لا بد من منع الشرق الأوسط من الاندفاع نحو الهاوية في وقت يسافر المناخ الدولي في القطار الأوكراني نحو هاوية يصعب التكهن بنتائجها وكوارثها؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المسافرون نحو الهاوية المسافرون نحو الهاوية



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib