«أوميكرون» كما يتفقد القاتل مسرح الجريمة

«أوميكرون»... كما يتفقد القاتل مسرح الجريمة

المغرب اليوم -

«أوميكرون» كما يتفقد القاتل مسرح الجريمة

غسان شربل
غسان شربل

ظهورُ متحورٍ جديدٍ من «كورونا» لم يكنْ مستغرباً. سبقَ للعلماء أنْ حذَّروا من ذلك. واستخدموا هذه الذريعةَ في محاولة إقناع الخائفين والمترددين والتائهين الذين يعتبرون دفعَهم إلى تلقِّي اللقاح نيلاً من حريتهم. وموقف الفئةِ الأخيرة فظيعٌ ومريعٌ. وإذا كانَ من حق المرء ألا يهتمّ بسلامتِه الشخصية فالأكيدُ أنْ ليس من حقه الإقدام على أي ممارسة تهدِّد سلامة الآخرين ومنها الامتناع عن تلقي اللقاح. كان ظهورُ المتحور وارداً أو متوقعاً، لكن لم يتوقع أحد أن يمتلكَ هذه القدرة الكبيرة على إقلاق الأفراد والدول. ها نحن الآن أمام طبعة جديدة ومنقَّحة من الوباء تحمل اسم «أوميكرون». وإذا كان لا بدَّ من بعض الوقت للتعرف من كثب على الزائر الجديد، فإنَّ المعلومات الأولية أوحت بأنَّه أكثرُ شراسة وقدرة على الانتشار السريع من الطبعات السابقة من الوباء.

في الشهور الماضية بدا العالم في صورة من تمكَّن من الخروج من تحت وطأة الضربة التي شكَّلها ظهورُ الوباء. استعاد الاقتصاد شيئاً من عافيته وتفرَّغ لإحصاء خسائره والتفكير في أفضل السبل لمواجهتها. كان الأمرُ بحجم نكبة كاملة قيمتها تريليونات الدولارات، وإصابات بالغة في قطاعات عدة بينها السياحة والطيران، فضلاً عن خسائر هائلة في موضوع التعليم. وعلى رغم قسوة الأرقام استرجع العالم قدراً من حيويته وثقته بقدرته، خصوصاً مع ارتفاع نسب التلقيح والحديث عن حبوب تقترب من الأسواق.

لا مبالغة في القول إنَّ العالم كاد ينسى الوباء أو لم يعد يعتبره صحناً رئيسياً في وليمته اليومية. الوباء الذي احتل مانشيتات الصحف ذات أيام كئيبة تراجع إلى خبر صغير في أسفل الصفحة الأولى أو غاب. إنَّها مؤشرات الخروج من وضع الرهينة مدعمة بالأرقام واللقاحات وقناعة راسخة بقدرة هذا التقدم العلمي الهائل على توفير سلاح يصرع التنين.

انشغل العالم بملفات أخرى. لم يشطب ظهور الوباء الكراهيات الدولية ولم يجمّدها. الكراهيات والمخاوف قوة محركة للسياسات والرياح الساخنة وحروب الاستنزاف. ليس بسيطاً ما سمعناه في الأسابيع الأخيرة عن مخاوف عميقة لدى جنرالات حلف الناتو من أن يستيقظ العالم ذات يوم على نبأ غزو روسي لأوكرانيا. ليس لدي أي شكوك في أنَّ البند الوحيد الثابت في برنامج فلاديمير الكبير هو استنزاف الغرب وضخ الشكوك مع الغاز في العروق الأوروبية. ولم يعد سراً أن سيدَ الكرملين ينفذ برنامجاً ثأرياً ضد النموذج الغربي الذي دفع الاتحاد السوفياتي إلى ما يشبه الانتحار، ومن دون أن يطلق عليه رصاصة. لكن متابعة متأنية لأسلوب بوتين في تسديد الضربات تساعد على استبعاد غزو يعيد إلى الأذهان، ليس الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا في 1968، بل ممارسات الحرب العالمية الثانية وطحن الحدود الدولية بجنازير الدبابات.

في الشهور الماضية بدا العالم في صورة من اعتاد التعايش مع كورونا» وتفرغ لحروبه القديمة والجديدة. تصاعد الحديث عن الخطر الصيني. ظهرت ملامح خط تماس صريح في بحر الصين الجنوبي وعلى شواطئ تايوان. بدا جلياً أنَّ أميركا العائدة من أفغانستان تريد التفرغ لمواجهة «الاتحاد السوفياتي الجديد» وهو الحزب الشيوعي الصيني. ضاعف من سيناريوات الإثارة نجاح الزعيم الصيني الحالي في استكمال إجراءات الإقامة المفتوحة على رأس مصنع العالم مع قدر من عبادة الشخصية توفره المناهج المدرسية نفسها.

لم يغير ظهور الوباء سلوك الديناصورات في نادي الكبار، ولم يغير أيضاً من شراهة ذئاب الأقاليم. نجاح الوباء في قتل خمسة ملايين شخص وتكبيد الاقتصاد العالمي خسائر فلكية غير مسبوقة لم يدفع الدولَ إلى وقف نزاعاتها أو تجميد تطوير ترساناتها. وعلى وقع رياح «كورونا» انزلقت إثيوبيا إلى حربها الأهلية، وعمَّق لبنان إقامته في جهنَّم، وتابعت إيران عضَّ الأصابع مع أميركا من دون الإفراج عن العواصم التي اعتقلتها.

سلَّم المواطن العادي بأنَّ «كورونا» جزءٌ من المشهد الجديد. تناول اللقاحَ وعاد إلى المكاتب، وراح يتلقَّى بروح رياضية ظهور الإصابات على مقربة منه مكتفياً بإجراء الفحوصات التي باتت نوعاً من الوجبات. وتزايدت ثقة الحكومات بإجراءاتها. تخلَّت عن بعض القيود ولمَّحت إلى أنَّ العودة إلى الإغلاق ليست واردة حتى ولو عاد الوباء مذكرة بأنَّ حياة الاقتصاد لا تقلُّ أهمية عن حياة الناس.

في زمن الكوليرا والإنفلونزا الإسبانية وغيرها كان باستطاعة المواطن أن يتأخَّرَ في معرفة الأنباء الكارثية، خصوصاً عن عمليات الإبادة الجماعية التي تنفذها الأوبئة. اليوم وبفضل هذا الجاسوس الذي سمُّوه الهاتف الذكي ينتقل سمُّ الأخبار فوراً إلى مائدتك. وبعد حفنة دقائق يطلُّ الخبراء وتتلاحق العناوين فتتسرَّب المخاوف إلى بيوت المواطنين وبيوت الحكومات وبيوت البورصات.

إذا صحَّت تكهنات المتشائمين فإنَّ العالم سيجد نفسه أمام قاتل متسلسل يمتلك قدرة على اختراق الحدود تفوق بمرات كثيرة قدرات الإرهابيين على التسلل. يمتلك أيضاً قدرة على التضليل تفوق قدرات عتاة السياسيين، خصوصاً لجهة تحايله على اللقاحات. ولعلَّ أخطرَ ما في إطلالة القاتل الجديد هو إنعاشه موسمَ الكآبة ومعه سيناريوات الموت والتصدعات الاقتصادية والإفلاسات والمكاتب المهجورة والمتاجر الفارغة والمطارات الموحشة.

إذا تبيَّن أنَّ القاتل الجديد يمتلك قدرة غير مسبوقة على القتل يتعيَّن على العالم أن يستنتجَ ما يلزم وأن يكونَ الردُّ مختلفاً. يحلم المواطن العادي بتجميد النزاعات وتحويل ما ينفق عليها إلى المختبرات لدحر الوباء.

تعبنا من تغطية أخبار الوباء وارتكاباته وتحوراته. تعبنا من الخسارات والجنازات. تعبنا من العزلة ورائحة الجزر والدوران بين السطور والجدران. الزيارة الجديدة تلوح مؤلمة وباهظة. كأنَّ القاتلَ يتفقَّد مسرحَ الجريمة لتسجيل أرقام قياسية لم تتحقق في إطلالاته السابقة. طبعة مزيدة ومنقحة من الوباء. هذا كثير. نراهن على العلماء المنخرطين في معركة المختبرات لإخراج «القرية الكونية» من سوءِ المصير.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«أوميكرون» كما يتفقد القاتل مسرح الجريمة «أوميكرون» كما يتفقد القاتل مسرح الجريمة



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم
المغرب اليوم - المغرب يفقد 12 مركزاً في تصنيف مؤشر تنمية السياحة والسفر لعام 2024

GMT 16:56 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل
المغرب اليوم - مفاوضات غامضة بين محمد صلاح وليفربول وسط تصريحات مثيرة للجدل

GMT 16:47 2022 الجمعة ,14 كانون الثاني / يناير

حزب التجمع الوطني للأحرار" يعقد 15 مؤتمرا إقليميا بـ7 جهات

GMT 07:41 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

إكس" توقف حساب المرشد الإيراني خامنئي بعد منشور بالعبرية

GMT 21:24 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء هادئة خلال هذا الشهر

GMT 09:02 2023 الإثنين ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

خبير طبي يؤكد أن التدفئة مهمة جدًا للأطفال الخدج

GMT 18:10 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 07:57 2016 الأحد ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

هافانا ذات الجو الحارّ غارقة في التاريخ ونابضة بالحياة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib