الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس دولة لبنان الكبير، الذي بعد تأسيسه بـ14 عاماً ولد رئيس الجمهورية اللبناني الحالي الجنرال ميشال عون (86 سنة)، وبعد 18 سنة من التأسيس ولد رئيس مجلس النواب الحالي نبيه بري (82 سنة)، أتت في الوقت الذي تثير فيه دولة لبنان الكبير الآمال والمخاوف بين النخبة السياسية اللبنانية اعتماداً على من تسأل. إنها الزيارة الثانية التي يقوم بها ماكرون في أقل من شهر إلى البلد الذي حلت بعاصمته كارثة (تواطأ) الكثيرون فيها وكان للرئيس عون ردا فعل؛ الأول عندما وقعت الكارثة حيث قال، إنه لم يكن باستطاعته عمل أي شيء لتجنبها، رغم معرفته بوجود نيترات الأمونيوم لأنه يحترم التراتبية في المسؤوليات. والثاني ما قاله لماكرون في غداء القصر: «أمامنا بديلان: الاستسلام أو البقاء متفائلين». قد يكون ماكرون هو صاحب البشارة المنتظرة. ففي الأسابيع الأخيرة مارست فرنسا ضغوطاً شديدة على لبنان. إن فرنسا مستعدة للمساعدة ولكنها لن تفعل ذلك من دون تمييز.
نقطة البداية واضحة: المساعدة مقابل حكومة فاعلة ملتزمة بالإصلاحات تبذل نفسها لتصحيح النظام المالي المنهار، ومراجعة حسابات البنك المركزي والحسابات الحكومية.
إن زيارة ماكرون للعراق بعد لبنان مباشرة، تبعث برسالة واضحة مفادها بأن فرنسا تشير إلى نيتها في العمل مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب والقوى الإقليمية الأخرى لتحقيق التوازن في سعي إيران الرامي إلى الهيمنة الإقليمية. لا يريد ماكرون أن يرى ملايين الدولارات التي جمعها ولم يجمعها بعد من أجل لبنان، في أحسن الأحوال تملأ جيوب الفاسدين، وفي أسوأ الأحوال تمول «حزب الله». يسعى ماكرون إلى حكومة تكنوقراطية تضمن تنفيذ الإصلاحات، وهو مستعد لأن يعد لبنان بالقمر إذا كان يضمن الحكم والاستقرار.
من ناحيته، يدرك لبنان جيداً ما تنطبق عليه الصفقة. خلال زيارته ناقش ماكرون برنامجاً تضمن خريطة طريق نهائية بمسارين؛ الأول اقتصادي يحتوي على برنامج إصلاحي محدد جيداً، والثاني سياسي ودستوري يتضمن تطوير البلاد إلى دولة مدنية تنهي 30 عاماً من الفساد والإهمال في ظل النظام الطائفي بعد «اتفاق الطائف»، الذي لم يُطبق. قبل وصول ماكرون إلى لبنان بيوم واحد، أُعلن عن تعيين سفير لبنان لدى ألمانيا مصطفى أديب رئيساً للوزراء، لديه خلفية دبلوماسية وأكاديمية. هو ليس معروفاً، إذ ليس كل السفراء معروفين للبنان شعبياً، إلا أنه اعتبر بمثابة حل وسط جيد من قبل جميع الأطراف، هذا أثناء عملية التكليف.
من الواضح أن «حزب الله» كان يفضل رئيس وزراء مختلفاً، وكان من بين الأسماء المرشحة لهذا المنصب مدعي عام التمييز غسان عويدات. عرف عن عويدات ارتباطه بالحزب الذي يستغل مكانته الرفيعة في القضاء لمصالحه الخاصة. وحسب التقارير حرص «حزب الله» على أن يتسلم عويدات قيادة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت فور وقوع الحادث (قبل إحالة القضية إلى المجلس العدلي)، معلومات فيها شيء من الصحة. وبحسب التقارير، فقد أبقى عويدات مسؤولي الحزب على اطلاع على النتائج طوال فترة التحقيق الذي شارك فيه. كان الحزب يعتقد أن عويدات كمدعٍ عام أكثر قيمة من كونه رئيساً للوزراء، ويخشى ما يمكن أن يحدث إذا شارك «مدعٍ عام» أكثر حيادية في التحقيق في انفجار المرفأ أو أي مسائل قانونية أخرى تتعلق بالحزب.
علاوة على ذلك تورط عويدات في تسريب وثائق تتهم مسؤولين من غير الحزب بالفشل الذريع الذي أدى إلى الانفجار، فرد هؤلاء باتهامه من فوق أسطح المنازل بأنه كان يعرف عن نيترات الأمونيوم، وتجاهل الحقيقة. كما أن النائب جميل السيد طلب من عويدات التنحي لعلاقة القربى بينه وبين وزير الأشغال غازي زعيتر، الذي سيخضع هو الآخر للتحقيق في قضية انفجار المرفأ، واعتبر السيد أن «تضارب المصالح» يمنع تحقيق الصهر مع والد زوجته. لذلك لو أصر «حزب الله» على تعيين عويدات رئيساً للوزراء، لكان من الممكن أن يلفت إلى ارتباط الأخير به، والأسوأ من ذلك إلى تدخل الحزب في تحقيق الانفجار، وربما حتى علاقته بالإهمال الإجرامي الذي سمح بوجود المادة الخطرة هناك في المقام الأول، لذلك كان الحزب في النهاية مضطراً للرضوخ لتعيين أديب، خصوصاً أن الكثيرين من الذين تضررت مكاتبهم على المرفأ ذهبوا في اليوم التالي للانفجار لمعرفة مدى الدمار، ليكتشفوا أن الذين يسمحون لهم بالدخول من قرب العنبر 12 (مكان الانفجار الذي قتل ثلث العاصمة)، كانوا عناصر من «حزب الله» مدججين بالسلاح ويعملون على تغيير مسرح الجريمة... من هنا تأخر وصول الجيش أياماً طويلة.
هناك الكثير الذي يتعين على لبنان فعله لإثبات أنه قد شرع في طريق جديد وليس مجرد إجراء بعض التغييرات السطحية.
في المقابل، لدى لبنان الكثير ليخسره، إذا لم تنجح الحكومة الجديدة في تنفيذ الإصلاحات اللازمة لتلقي المساعدات الدولية. كلمات ماكرون: «الإصلاح أو المعاقبة»، تركت صدى، لا نعرف إذا كان جيداً أو مخيفاً، في آذان النخبة السياسية في لبنان.
اتهم ماكرون بأنه هادن «حزب الله»، لكن من السذاجة الافتراض أن الرئيس الفرنسي الذي مارس كل نفوذه على القضية اللبنانية، سوف ينحي جانباً مسألة سلاح «حزب الله» إلى الأبد. سيكون من المستغرب أن نفترض أن الأمر لم يثر وراء الكواليس بشكل ما، الوقت سيخبرنا ما ستكون عليه النتيجة. لكن في المؤتمر الصحافي الذي عقده ماكرون قبل استقباله الفنانة ماجدة الرومي ليغادر من بعدها لبنان إلى العراق سئل عن موقف النائب محمد رعد (ممثل «حزب الله») فقال إنه اعترض فقط على الانتخابات المبكرة، وأضاف ماكرون أنه قال لرعد: سنبحث مسألة سلاح الحزب بعد ثلاثة أشهر، وحسب ماكرون: وافق رعد.
علاوة على ذلك، فإذا كان لبنان مستعداً لإعادة تأهيل مؤسساته العامة في ظل حكومة «خالية من (حزب الله)»، فإن الضغط الأميركي سيتلاشى، رغم أن هذا قد يكون أيضاً مسألة وقت. كنا نعتقد أن الجانب السياسي للأزمة سيهدأ على الأقل مؤقتاً، لكن مع السياسيين والأحزاب اللبنانية المتحجرة، الطبع غلب التطبع، ولا تزال المغامرة بآخر فرصة محتملة، لكن الجانب الإنساني سيطارد لبنان لعدة أشهر أو سنوات مقبلة. لا يزال البلد في دوامة من الانحدار نحو أن يصبح دولة فاشلة، سيكون عدم الاستقرار المحتمل عاملاً حاضراً دائماً خلال الأشهر القليلة المقبلة. ويحاول «حزب الله» الوقوف على قدميه في عاصفة عدم الاستقرار السياسي، وكلما ازداد الوضع سوءاً، زاد تضرر «حزب الله» من التداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية.
في ظل «تمرمر» مصطفى أديب لتشكيل حكومته، أراد «حزب الله» أن يقول أن لا شيء يؤثر عليه، فإذا به يفرض على لبنان رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية وليستقبله الأمين العام للحزب، ورئيس مجلس النواب نبيه بري والنائبة بهية الحريري، وليحرس الجيش اللبناني مخيم «عين الحلوة» الذي زاره هنية، حيث استقبل بالرشاشات والسلاح ورفع على الأكتاف، مما شكل استخفافاً فاضحاً لسيادة دولة لبنان بذكرى مئوية تأسيسه. فهل ننتظر بعد هنية أن يزور لبنان الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أو نائبه المطلوب دولياً طارق العيسمي، آخر من تبقى من أصدقاء لإيران والحزب؟ لم نعرف حتى الآن كيف وصلت شحنة نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، فهل لنا أن نعرف كيف دخل إسماعيل هنية إلى لبنان، وكيف غادر غزة؟ وهل غادر من دون إذن إسرائيل؟ وما معنى أن تقرر «حماس» عقد مؤتمرها السنوي في لبنان وبيروت لا تزال تلملم أشلاءها؟ وهل هناك رائحة حرب في لبنان؟
هل نفهم أن الحزب ليس بوارد إعطاء فرصة للبنان كي يقوم من تحت الأنقاض إذا لم «يبصم» له كل اللبنانيين على شرعية سلاحه بمساواة شرعية سلاح الجيش اللبناني.
على أي سفينة يقف الحزب وأسلحته؟ إنه على السفينة اللبنانية التي تكاد تشبه سفينة «إم في روسوس» التي نقلت نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، وغرقت.
وكي لا تغرق السفينة، ولأن كل الأطراف في لبنان صارت مكشوفة، سيضطر «حزب الله»، إلى تكريس المزيد من الموارد لأنشطته المدنية في محاولة لإنقاذ قاعدته السياسية من السكان الشيعة من الكارثة المقبلة، وقد يأتي ذلك على حساب عملياته العسكرية في كل من لبنان ودول أخرى.
إن ماكرون وبقية المجتمع الدولي يدركون ذلك، وبالتالي ليسوا في عجلة من أمرهم لتزويد «حزب الله» وحلفائه السياسيين الفاسدين بطريقة سهلة للخروج.
لذلك، تعالوا نصلي من أجل لبنان.