من أجل الضحايا الذين رحلوا بتفجير مرفأ بيروت، يجب أن يبقى الحائط الذي ظل واقفاً مما تبقى من إهراءات القمح كما هو. يجب عدم إزالته، إكراماً للذين رحلوا وتذكيراً للذين بقوا أحياء ولم تتدمر بيوتهم وممتلكاتهم، لأن هذا الحائط رد عنهم، ويجب أن يظل مكتوباً عليه، ما هو الآن، «حكومتي فعلت ذلك»، و«لقد فجرتنا فعلياً». هذا الحائط سيبقى رمزاً للأجيال القادمة، كما جرى في مدينة درسدن الألمانية، وكما حدث مع «كنيسة وسط ساحة أوروبا» في برلين بعد تدمير الحلفاء، وللتذكير بأن الحرب يجب ألا تُعاد. في لبنان هذا واجب، ويجب أن تقوم الحملات لإبقائه شامخاً فوق زيف وفساد واستلشاء الحكومات المتعاقبة في لبنان على حماية الشعب اللبناني حتى في أيام السلم.
وسط دمارنا ونكبتنا يأتينا محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران، يقف أمام مبنى وزارة الخارجية المدمر ليقول لنا إنه لايريد تحقيقاً دولياً في لبنان وإن إيران مستعدة للمشاركة في التحقيق. كأن إيران ليست دولة أجنبية بالنسبة إلى لبنان، أو كأنها «أختنا الكبرى». ثم يتصل ظريف بإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» ليبثه طبعاً تضامنه مع الشعب الفلسطيني بعد اتفاق دولة الإمارات العربية المتحدة و«العدو الصهيوني» وليقول: «إننا على ثقة بأن الشعب الفلسطيني وشعوبنا العربية والإسلامية»! شعوب دولة فارس العربية! لو أن السيد ظريف يعرف أن شعب لبنان لا يرضخ حتى لقادته وبالتالي لن يقبل إيران، حتى لو تحدث ممثلها الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، كل يوم محاولاً تبليعنا محبة إيران لنا... دعوا اللبنانيين يدفنون موتاهم، واتركوهم يغرقون بالحزن وسينتفضون من الرماد، كما هي عادتهم، وهذه المرة نكايةً بمن ترك قنبلة نووية غير شعاعية تتفجر بهم. ويا للصدفة، كيف أسرع العراق واكتشف حاويات مليئة بالمتفجرات من إيران في ميناء أم قصر. ثم كيف يريد السيد ظريف أن يصغي اللبنانيون له وهو لا يجد مسؤولاً إيرانياً واحداً يُصغي إليه في بلاده؟! اللبنانيون يفصلون بين بلاده وبلادهم. كما رفضوا في السابق مقولة الرئيس السوري حافظ الأسد: شعب واحد في بلدين. فلتسمح إيران وسوريا وغيرهما، حتى لو نشروا كل جيوشهم في لبنان، لن يصبح شعب لبنان شعباً آخر. هذه الدول جعلت من لبنان دولة مسؤولين قتلة ومجرمين (تحالف المافيات والإرهاب)، عندما يتغطى الإرهاب بالفساد ويتغطى بالطائفية. هذه هي المعادلة اللبنانية القائمة: نظام المحاصصة يغطي الإرهابيين، والإرهابيون يغطون السرقات.
الآن العهد يريد تحوير الموضوع، يتكلم عن حكومة حيادية مستقلة، ويقول نصر الله إنه ضد حكومة حيادية وضد الحياد الذي يطرحه البطريرك الماروني مار بطرس بشارة الراعي. قال كارل ماركس: «الدين هو أفيون الشعوب»، أما في لبنان فإن تشكيل الحكومات هو أفيون اللبنانيين. هكذا يعتقد الجيل الذي يحكم لبنان منذ عام 1975. ويستغرب اللبنانيون كيف أن هذا الجيل المخضرم الذي لا يزال يحكم، لم يُصَب بأي «شعور»، ولكنهم (اللبنانيين) ينتظرون مَلَك الموت عزرائيل، كما تقول لي صديقتي. لم يصب أحد منهم بوباء «كورونا»، لم يصل الدمار إلى بيت أيٍّ منهم، لم يفقد أيٌّ منهم، لا ولداً ولا مالاً. أحزابهم قائمة على عبادة الفرد. لكن ما يريح اللبنانيين أنه عندما يموت أي منهم لن يجد أحداً يخلفه.
ستتفجر هذه الأحزاب من الداخل. الغرب تعامل مع كل الأحزاب اللبنانية، وفي نهاية الأمر جاء ليقول للبنانيين: ساعدوا أنفسكم لنساعدكم. معه حقٌّ الغرب في ناحية ما، إذ بعد نحو عشرة أيام على الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت لم تتم محاسبة أحد، باستثناء عدد قليل من مسؤولي المرفأ. إن الخطوط العريضة للتحقيق هي أسوأ لائحة اتهام حتى الآن للنخبة السياسية التي أدى فسادها إلى شل لبنان لسنوات.
سألتُ بريطانياً: ماذا يحصل في بريطانيا إذا سمحت الحكومة بوضع 2750 طناً من نترات الأمونيوم في عنبر ما في لندن؟ وكان جوابه: ما هذا السؤال الافتراضي؟ لا يمكن أن يحصل هذا، وبالتالي لا أستطيع أن أجيبك.
في لبنان علم مسؤولون بوجود هذه القنابل الموقوتة إلى جوار الأحياء السكنية مباشرةً، وحذّر مسؤولون أمنيون الشهر الماضي الرئيس الجنرال ميشال عون، ورئيس الوزراء حسان دياب، من وجود مخبأ خطير لنترات الأمونيوم قد يدمّر العاصمة إذا انفجر، ولما انفجر، وبدلاً من الاستقالة، اتهم الرئيس عون فاعلين خارجيين متورطين في الانفجار: «لم يتم تحديد السبب بعد، هناك احتمال لتدخل خارجي من خلال صاروخ أو قنبلة أو أي عمل آخر». ورفض إجراء تحقيق دولي على أساس أنه يهدف إلى تشويه الحقيقة.
معه حق الرئيس عون، قد يكون صاروخ انفجر فلماذا لا يدعو إلى التحقيق بدور إيران في تزويد «حزب الله» بالصواريخ، التي قد تكون شحنة جديدة «طازجة» وصلت إلى مرفأ بيروت فانفجر أحدها ودمر المرفأ وثلث بيروت؟ لكنّ عون ربما شعر بأن الخبثاء قد يفهمون عكس ما يُضمر، فأعطى مقابلة يوم الثلاثاء الماضي للصحيفة الإيطالية «كورييري ديلا سيرا» قائلاً إن «حزب الله» لم يخزّن أسلحة في مرفأ بيروت، مردداً ما قاله نصر الله الأسبوع الماضي. وأضاف عون: «مستحيل أن يكون الانفجار الكبير ناجماً عن انفجار مستودع أسلحة لـ(حزب الله)، لكن سيتم التحقيق في مختلف الاحتمالات».
نظراً إلى العلاقة الوثيقة بين عون ونصر الله، ما رأيه، باسم الشعب اللبناني، أن يستوضح منه أين هي بقية مستودعاته، ليس من أجل نزع الأسلحة منها، بل لإجلاء سكان تلك المناطق، رحمةً بالأرواح البريئة التي ستُزهق حتماً، لأن انفجار المرفأ لن يكون الأول ولن يكون الأخير، فليتوقع اللبنانيون ما يحصل في إيران من انفجارات ليلية وحرائق غريبة.
دفاع الرئيس عون وحلفاء «حزب الله» عنه، لن يمحو الشبهة. سيكون هناك المزيد من الاحتجاجات والمزيد من الانحراف من السياسيين بما في ذلك «حزب الله» وجماعاته المتشددة.
إن الغضب الشعبي من «حزب الله» يتزايد. إنه أكبر عقبة أمام مشروع إقامة دولة قوية بمؤسسات عاملة. هو المسؤول عن الكثير من هذا. ثم إن الحزب كان يواجه المزيد من ردود الفعل العنيفة من الداخل، بسبب تدخله في الحرب الأهلية السورية والفساد المتفشي داخل صفوفه.
يقول عون للصحيفة الإيطالية إنه في حرب 2006 «كان من واجبي أن أقف إلى جانب (حزب الله) لأنني لبناني (...) وعندما تهاجم إسرائيل أرضاً لبنانية وتقتل لبنانيين فعلى كل مواطن لبناني أن يكون ضد المعتدين»! نسي الرئيس اللبناني عبارة الأمين العام لـ«حزب الله» بعد انتهاء الحرب التي دمّرت لبنان: «لو كنت أعرف»! والمضحك المبكي في هذه المقابلة أن عون أمل أن يؤدي الضغط الشعبي إلى إقرار المزيد من القوانين الإصلاحية! لكن لم يقل أي قانون إصلاحي تم إقراره.
لم يكن من المتصور أن تسوء الأمور في لبنان إلى هذا الدرك. يواجه انهياراً اقتصادياً ذا أبعاد تاريخية. ولا تزال الطبقة السياسية في لبنان تركز على الحفاظ على امتيازاتها في نظام لم يعد فاعلاً. إخفاقاته مدمِّرة، والإهانات اليومية التي يرمي بها شعبه لم تعد محتمَلة. إن الفساد وعدم المساءلة سبب كل ذلك. إن التسوية غير المستقرة بعد الحرب اعتمدت نموذجاً طائفياً أضعف مؤسسات الدولة وقوّى ثقافة المحسوبية والفساد والريعية وأعاق السياسات الفعالة. هناك فقط المصالح الخاصة اللازمة للحفاظ على النظام ولو أفلسوا البلاد، وقد فعلوا. ردة فعل السياسيين جسّدت الخلل العميق في قلب نظام الحكم في لبنان.
ليس معروفاً كيف يدعو المجتمع الدولي نظاماً سياسياً متحجراً حمى الفاسدين وأساء الإدارة، إلى إجراء إصلاحات؟ على المجتمع الدولي أن يدعو إلى استمرار المظاهرات ويتولى هو حمايتها. لن يُسقط هذا النظام إلا أبناء الآباء الذين تلوعوا منه.
ونعود إلى السيد ظريف الذي لا يريد تحقيقاً دولياً لنسأله: كيف تقبل بلادك بمفتشين دوليين عن النووي؟ لبنان أيضاً يريد محققين دوليين ليكشفوا ما جرى. ونذكّر بالجدار الذي بقي من إهراءات القمح الذي يجب أن يتحول إلى نصب تذكاري، لأن السياسيين اللبنانيين لم يحموا البشر، وبقدر استطاعته حمى هذا الحجر الأحياء من أهالي بيروت حتى الآن.