يكرر أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي، أنه لن يُسمح لإيران بامتلاك أسلحة نووية. لكنه لا يغلق الدائرة بحيث تشمل برنامج الصواريخ الإيرانية، وهي مستمرة في استعمالها في محاولة قصف المملكة العربية السعودية عبر الحوثيين في اليمن، ولا يأتي على ذكر الجماعات المسلحة التي زرعتها لزعزعة استقرار المنطقة، لا بل تدمير عدد من الدول العربية وعلى رأسها لبنان، واليمن، وسوريا والعراق. لن تستعمل إيران السلاح النووي فهي تعرف عواقبه، لكن لوحظ أنه منذ التوقيع على ذلك الاتفاق أُزيح عبء عن كاهلها، وهطلت عليها الأموال فأسرعت في تنفيذ مخططاتها الأخرى واعترفت بأنها احتلّت أربع عواصم عربية. كذلك لم يأتِ بلينكن على ذكر حقوق الإنسان في إيران، حيث الإعدام صار متوفراً أكثر من الخبز. وتتردد أخبار بأن الإدارة الأميركية الجديدة تفكر في تخفيف العقوبات عن إيران، لكنْ هناك شخص أساسي مسؤول عن هذه العقوبات هو المرشد علي خامنئي. وعندما سئل ولي العهد الإيراني الأمير رضا بهلوي، الأسبوع الماضي، عما إذا كان يعتقد أن الإدارة الجديدة ستعود إلى الاتفاق النووي، أجاب: «كانت المشكلة الأساسية في الاتفاق أنه استند إلى مغالطة كبيرة وهي تغيير السلوك. على مدى أربعة عقود ظنت القوى الغربية أن هذا النظام سيغير سلوكه. لن يحدث هذا. ويعلم الإيرانيون أن النظام لا يسترشد بمصالحهم الوطنية بل بمصالحه الإجرامية الفاسدة».
إن مجيء الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن أشعل الصراع في إيران ودفع بخامنئي إلى التدخل مباشرةً في حملة الابتزاز، إذ طلب من سبعة من كبار المسؤولين إعطاء مقابلات حصرية لموقع خامنئي في النصف الثاني من الشهر الماضي، وكلهم كان له دور في التوصل إلى الاتفاق النووي، وحمل الملف عنوان «كلمة حاسمة»، وغطت كلها الاتفاق، بما فيها عقوبات واشنطن الاقتصادية على طهران، لكن غاب عن هؤلاء الرئيس حسن روحاني، رغم وجود وزير خارجيته محمد جواد ظريف.
كما غاب علي شمخاني أمين عام مجلس الأمن القومي. غياب شمخاني الذي ينتمي إلى الأقلية العربية الإيرانية كان اللافت لأنه من أشد المعارضين للاتفاق النووي، ومؤخراً زاد خلافه مع الحكومة حول الاتفاق إلى درجة أن محمود واعظي رئيس أركان الرئيس حسن روحاني، اتهمه سراً، ومن دون إبلاغ روحاني، بالتعاون مع مجلس الشورى على تمرير اقتراح مثير للجدل. يطالب القانون البرلماني، وهو «الإجراء الاستراتيجي لرفع العقوبات» الحكومة بتسريع البرنامج النووي وتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 20%.
عارضت حكومة روحاني الاقتراح وعدّته محاولة لتخريب المفاوضات المحتملة مع إدارة بايدن، لكن سرعان ما عاد روحاني ورضخ، وكشف بعض المحللين أن أوامر خامنئي أجبرت روحاني على تغيير موقفه. وقال كمال خرازي الذي يرأس المجلس الاستراتيجي الإيراني للعلاقات الخارجية، إن لدى علي أكبر صالحي رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، بعض التحفظات على قرار البرلمان تخصيب اليورانيوم، لكنّ القيادة أعطت الأمر وبدأ على الفور العمل من أجل التخصيب. وكان ظريف قد أشار إلى أن خامنئي قال في اجتماع إن القرار البرلماني (قانون العمل الاستراتيجي من أجل رفع العقوبات) يجب أن يُنفذ. وكانت الحكومة قد وافقت إنما بشروط على توفير الأموال اللازمة وتداولات الأمر لمدة شهرين، لكن بعد أوامر خامنئي اختفت كل هذه الشروط.
تكشف هذه التطورات أن خامنئي أصبح أكثر نشاطاً في الإشراف على القضية وقرر إدارة المسائل النووية بشكل مباشر ومعرفة وقعها على العقوبات الأميركية، وبالتالي دفع روحاني إلى الزاوية مقلصاً مساحة المناورة أمامه.
المقابلات التي نُشرت على موقع خامنئي والتي جاءت بعد تصريحات له في شأن عودة واشنطن إلى الاتفاق، غطّت على روحاني وأضعفت موقفه في هذه القضية. كانت مليئة بالثناء على خامنئي ونشاطاته، وتكررت عبارة محددة: «تأكيد كلمة الحسم للنظام»، و«ضرورة رفع واشنطن العقوبات المفروضة على طهران في نفس الوقت أو قبل العودة إلى الاتفاق». يختلف هذا النهج بشكل كبير عن رأي روحاني الذي كان يؤكد ضرورة عودة واشنطن إلى الاتفاقمن دون الإشارة إلى أي شروط مسبقة. من خلال تأكيده هذا الجانب، كان روحاني يخطط للاستفادة من المناخ النفسي والسياسي في السياسة الداخلية وإصلاح صورة حكومته.
خطة خامنئي تواجه مأزقاً، فهو قال إنه لا يسعى بفارغ الصبر إلى عودة واشنطن للاتفاق، بل إن رفع العقوبات هو من أولوياته، وبذلك حيّد نهج روحاني.
يشمل النهج العدواني لإيران أشكالاً مختلفة مثل الإصرار على رفع العقوبات أولاً، والتعبير عن عدم الاهتمام بعودة واشنطن إلى الاتفاق من دون رفع العقوبات، والأمر بتنفيذ الإجراء الاستراتيجي الأحادي الجانب لرفع العقوبات من خلال توسيع البرنامج النووي، والقيام بأعمال استفزازية مثل إنتاج اليورانيوم المعدني، والتدريبات الصاروخية لـ«الحرس الثوري» وما إلى ذلك. يذكّر هذا الموقف العدواني إلى حدٍّ ما بسلوك الحكومة الإيرانية بعد فشل محادثات سادت آباد النووية عام 2004.
بعد هذا المأزق قال خامنئي أيضاً، إنه أمر بإزالة ختم المنشآت النووية مع التركيز على زيادة قدرة التخصيب وتصنيع أجهزة الطرد المركزي حتى تتمكن طهران من «المشاركة في المفاوضات المقبلة»، مسلحةً بشكل جيد. قد تكون هذه السياسة مثمرة إلى حد ما في السياسة الداخلية إذا كان خامنئي يعتقد أن الرئيس بايدن سيعود إلى الاتفاق النووي ويرفع العقوبات، عندها قد يتباهى خامنئي بأن سياسته العدوانية قد نجحت. لكن لنفترض أن هذه الاستراتيجية أدت إلى عودة واشنطن في الوقت الحالي إلى الاتفاق لكنها ترجئ رفع العقوبات إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في إيران في يونيو (حزيران) 2021، حتى في هذه الحالة سيكون معسكر روحاني مرة أخرى هو الخاسر في المنافسات السياسية الداخلية. وهكذا بدأ التراشق في الاتهامات بين المعسكرين في إيران.
في الأسابيع الأخيرة، أوضح مسؤولون حكوميون رفيعو المستوى، من بينهم وزير الخارجية محمد جواد ظريف، أن بعض أعضاء المعسكر المنافس ينقل رسائل إلى فريق الرئيس بايدن، يحذرونه من إجراء محادثات نووية مع إدارة روحاني. وأكد ظريف أن الجهات المناهضة لروحاني تحثّ واشنطن على التفاوض مع خليفته. في المناخ النفسي الحالي حيث يرفض الرأي العام وبشدة أي معارضة للتفاوض مع واشنطن ورفع العقوبات، من الطبيعي ألا يدعم خامنئي علانية تأخير محادثات طهران - واشنطن، فهو شدد مراراً وتكراراً على أن إدارة الرئيس بايدن يجب ألا تؤخِّر رفع العقوبات ولو ساعة واحدة.
في الأسابيع الأخيرة، أعلن أصوليّان بارزان؛ أمير حسين غازي زاده نائب رئيس البرلمان، وغلام علي حداد عادل، العراب الحالي للمتشددين، عن قلقهما من أن أسعار الذهب والعملة قد تنخفض بشكل حاد مع تسلم بايدن، وجادلا بأن مثل هذه الخطوات ينسقها معسكر روحاني وتستهدف الانتخابات الرئاسية المقبلة في إيران.
من الواضح أن الأصوليين الذين فازوا في الانتخابات النيابية بدعم من خامنئي ومجلس صيانة الدستور والمناخ السياسي الأحادي الجانب، يتوقعون الفوز برئاسة الجمهورية.
صحيح أن المسؤولين الإيرانيين، بعد فشل سياسة الاقتصاد الذاتي التي عمّمها خامنئي، يكررون القول ولسنوات إن هدفهم الأساسي هو رفع العقوبات، يؤكدون من جديد وبوضوح كامل أن همّهم الحالي هو الفوز بالصراع على السلطة المحلية والانتخابات عبر اللعب بورقة العقوبات. السلطة تتقدم على قلق الناس في إيران.
ثم مَن يكذب على مَن في مسألة الاتصال بإدارة الرئيس بايدن؟ وهل يمكن لإيران باعتمادها استراتيجية عدوانية إخضاع واشنطن لرغبات خامنئي؟
في تحقيق نشرته مجلة «سبكتاتور» الأميركية حول كيفية اغتيال الموساد الإسرائيلي عالِم الذرة الإيراني محسن فخري زاده، جاء أن الخمسين ألف وثيقة و163 قرصاً مضغوطاً التي استولت عليها إسرائيل، تحمل كلها بصمات فخري زاده، وأن هذه الوثائق أثبتت بشكل قاطع أنه حتى في أثناء توقيع طهران للاتفاق النووي عام 2015 مع إدارة الرئيس باراك أوباما، كانت تسعى سراً للحصول على القنبلة النووية.
إذن اللاثقة تحيط بالنظام الإيراني على كل المستويات الدولية والإقليمية. ثم هناك اللاثقة المتبادَلة بين الأطراف المتنازِعة على السلطة في الداخل. وما على إدارة الرئيس بايدن قبل أن تفكر في الجلوس من جديد مع المسؤولين الإيرانيين إلا إدراك هذا الأمر. إنها تتفاوض مع نظام لا تهمه مصلحة شعبه وشعوب المنطقة، مستعدّ لخداع أميركا والعالم من أجل الحفاظ على بقائه في السلطة لتحقيق كل أهدافه. ولا تتلاءم هذه الأهداف مع مصلحة شعوب المنطقة. وكما قال رضا بهلوي، لن يغيّر الملالي أسلوبهم، فقيام دولة في إيران يحتّم إلغاء وجودهم، فيسقط معهم كل مخطط التدمير الذي يعتمدونه.