هدى الحسيني
من منا لا يذكر فيلم «صباح الخير يا أميركا» عن الحرب الأميركية في فيتنام حيث الكل يقارن الآن بين ما حدث في كابل وما حدث في سايغون. وقد رأينا نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، بينما كانت كابل تتهاوى في أيدي حركة «طالبان» كانت الطائرة تقلع بها إلى فيتنام. هناك من استهجن الأمر؛ من دون أن يدرك أن العلاقات الأميركية - الفيتنامية جاهزة الآن للشراكة الاستراتيجية، وأن زيارة هاريس إلى فيتنام تهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية بين العدوين السابقين. ففي أعقاب الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى فيتنام، جاءت زيارة هاريس في لحظة مهمة للغاية؛ دخول كابل ومقارنته بسقوط سايغون في عام 1975 ووراءه كانت تقف الصين. كانت وسائل الإعلام الصينية تسعى جاهدة لتصوير الولايات المتحدة على أنها غير موثوق بها، ملمحة إلى «المصير» نفسه لتايوان. خلال اليوم الأول في هانوي، التقت هاريس كبار القادة الفيتناميين، وحضرت حفل توقيع اتفاقية إيجار أرض لبناء سفارة أميركية جديدة، وافتتاح «مركز السيطرة على الأمراض» الإقليمي للولايات المتحدة في هانوي، حيث أعلنت عن هدية من مليون جرعة من لقاح «فايزر»، ليصل إجمالي تبرعات اللقاح من الولايات المتحدة لفيتنام إلى 6 ملايين جرعة.
يذكر أنه قبل ساعات قليلة من وصول هاريس، عقد فام مينه تشينه، رئيس وزراء فيتنام، اجتماعاً مرتجلاً مع السفير الصيني شيونغ بو، الذي كشف عن أن الصين ستتبرع لفيتنام بمليوني جرعة لقاح. لكن يميل العديد من الفيتناميين، خصوصاً طلاب الجامعات، إلى واشنطن لإنقاذهم من هذه المعركة مع الفيروس. لكن الموضوع الأكثر أهمية بين هاريس وقادة فيتنام كان بالتأكيد كيفية تعميق العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وفيتنام. لقد تطور التعاون الشامل بين البلدين بوتيرة مذهلة خلال العقود القليلة الماضية، وقد حان الوقت الآن لفيتنام والولايات المتحدة لترقية علاقتهما إلى «شراكة استراتيجية». وصار يبدو واضحاً لمعظم المراقبين أن العلاقة بين الولايات المتحدة وفيتنام أصبحت استراتيجية بشكل متزايد، بغض النظر عما إذا جرى استخدام التسمية أم لا. يقول فام كوانج فينه، نائب وزير الخارجية السابق وسفير فيتنام لدى الولايات المتحدة: «كانت العلاقة بين البلدين ناضجة، وما زالت مسألة وقت فقط».
ينظر كثيرون إلى الشراكة بين الولايات المتحدة وفيتنام على أنها عامل رئيسي في تعزيز الأمن البحري ضد وجود بكين المتزايد في بحر الصين الجنوبي (البحر الشرقي للفيتناميين). أصبحت هذه المنطقة البحرية المهمة، التي تحمل نحو 40 في المائة من حركة الشحن في العالم وهي غنية بالصيد والموارد الطبيعية، ساحة رئيسية للتنافس بين الولايات المتحدة والصين بسبب قيمتها الاستراتيجية الجيوسياسية. يشمل النزاع في البحر الشرقي الصين وفيتنام والفيلبين وماليزيا وبروناي وكذلك تايوان.وبالاعتماد على ما يسمى «خط الفواصل التسعة»، تدعي الصين أن كل المنطقة داخل أراضيها، وهذا تأكيد رفضته محكمة التحكيم الدائمة في عام 2016.
لتفعيل مطالباتها وتقويتها، طبقت الصين إجراءات متعددة؛ من نشر الدعاية في وسائل الإعلام، وطباعة خريطة الصين بخط من 9 خطوط على جوازات سفرها، إلى تنظيم التدريبات العسكرية، ومنع الدول الأخرى من ممارسة الأعمال التجارية في مناطقها الاقتصادية الخالصة، وتطبيق تكتيكات «المنطقة الرمادية» لتكثيف وجودها في المنطقة... على سبيل المثال لا الحصر، تصر الصين على أنه يجب حل النزاعات على المستوى الثنائي، وترفض السماح بتدويلها، وهي ليست أكثر من استراتيجية «فرّق تسد»، بالنظر إلى فجوة القوة بين الصين والدول الساحلية الأصغر في المنطقة. ومع ذلك، فقد دفعت عدوانية الصين المتزايدة القوى العالمية إلى الانخراط بشكل متزايد في هذه النزاعات. ففي يوليو (تموز) 2020، أعلن وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو أن «مطالبات بكين بالموارد البحرية عبر معظم بحر الصين الجنوبي غير قانونية تماماً». أعقبت احتجاج الولايات المتحدة إجراءاتٌ مماثلة من الهند وأستراليا. وفي سبتمبر (أيلول) 2020، قدمت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة إلى الأمم المتحدة مذكرة شفوية مشتركة لدحض مزاعم الصين. وسلطت الوثيقة الضوء على أن «المطالبات المتعلقة بممارسة» الحقوق التاريخية «على مياه بحر الصين الجنوبي لا تتوافق مع أحكام القانون الدولي واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار». هذا العمل المشترك غير مسبوق؛ لأنها المرة الأولى التي تعبر فيها القوى الأوروبية الثلاث عن معارضتها لمطالب الصين بشكل مباشر وبقوة. في يناير (كانون الثاني) 2021، أرسلت طوكيو أيضاً إلى الأمم المتحدة مذكرة دبلوماسية، رفضت فيها مطالبات الصين الإقليمية الواسعة، واستنكرت جهود الصين للحد من حرية التحليق والملاحة في هذه المياه ذات الأهمية الاستراتيجية.
تظهر المشاركة المتزايدة للقوى العالمية والاجتماع الأخير لمجلس الأمن بشأن الأمن البحري التدويل الواقعي لنزاعات البحر الشرقي، والذي يمكن حسبانه انتصاراً لفيتنام والدول الساحلية. لكن ربما حان الوقت الآن لهم، خصوصاً فيتنام في المقام الأول، للعمل بشكل ثنائي مع الولايات المتحدة والقوى الأخرى للبحث عن حلول أخرى. يبدو أن هذا هو ما كانت تفكر فيه هاريس عندما قالت إن «الولايات المتحدة تدعم فيتنام قوية ومستقلة ومزدهرة وتلتزم بتعزيز علاقات مستقرة ومتينة مع فيتنام».
من عام 1962 حتى عام 1975 استمرت الحرب الأميركية في فيتنام التي أدت إلى فضيحة سايغون. واستغرق البلدان أكثر من 3 عقود ليكتشف كل منهما حاجته إلى الآخر ضد عدو واحد هو الصين. السؤال هو: ماذا لو حدث الشيء نفسه بين أميركا وأفغانستان؟ وقد لا ينتظر عقوداً؛ لأن الأميركيين يضاعفون تركيزهم على الصين من جميع الزوايا، ثم إن الأمر الذي يقلق أميركا أكثر هو التعاون بين روسيا والصين. والدولتان شاخصة عيونهما نحو أفغانستان وثروتها. لقد حذر الأدميرال تشارلز ريتشارد؛ من «القيادة الاستراتيجية الأميركية»، قبل أيام من أن الشراكة بين الصين وروسيا تمثل «تهديداً سريع النمو». وأضاف قائد «ستراتكوم»: «تتمتع كل من روسيا والصين بالقدرة على الانتقال الأحادي، وباختيارهما، إلى أي مستوى من العنف، والذهاب إلى أي مجال، وإلى جميع أنحاء العالم، بكل أدوات القوة الوطنية»، وأضاف أن التهديد يزداد إذا كان البلدان يعملان معاً.
اليوم تتعاون الصين وروسيا على جبهات عديدة؛ ربما على الأخص في قضايا الطاقة. لكن يبدو أن البلدين يجسان النبض من أجل شراكات أوسع تتراوح من العسكرية والاقتصادية إلى العلمية والتكنولوجية. وقال الأدميرال ريتشارد: «أعتقد أننا في حاجة إلى أن نكون أكثر تواضعاً بشأن قدرتنا على التحكم في التصعيد في أي أزمة مما نفعله حالياً (...). إذا لم أتمكن من الحصول على الردع الاستراتيجي، لا سيما الردع النووي، فلن تعمل أي خطة أخرى ولا قدرة أخرى في البنتاغون على النحو الذي جرى تصميمه». لهذا السبب، قال الأدميرال ريتشارد: «إنه وقت جيد لإجراء مراجعة استراتيجية الدفاع الوطني، للقيام بمراجعة الوضع النووي ومراجعة الدفاع الصاروخي».
وتأتي تصريحات الأدميرال ريتشارد في الوقت الذي أكملت فيه الولايات المتحدة الانسحاب العسكري من أفغانستان، وهي خطوة ينظر إليها البعض على أنها تحول ضروري في التركيز الاستراتيجي صوب الصين. وكان بحث أشار إلى تفاصيل التعاون المتزايد بين الصين وروسيا في مجال الذكاء الصناعي، وهو ما قال عنه الاستراتيجيون إنه عامل تمكين عسكري حاسم في العقود المقبلة.
قال البحث: «إن المراقبين الأميركيين يلاحقون هذا التقارب بين المنافسين الرئيسيين لأميركا بقلق؛ إن لم يكن بقلق متزايد». البحث نشره الشهر الماضي «مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة» بجامعة جورج تاون. يقول: «تؤكد النتائج التي توصلنا إليها تقييمات الشراكة الموسعة بين الصين وروسيا، لكنها تكشف عن الفجوات بين التطلعات الصينية والروسية والواقع على الأرض، مما يضفي مزيداً من الدقة والفوارق على التقييمات الحالية للتعاون الصيني - الروسي».
من غير المرجح أن يتضاءل القلق بشأن التحالف العسكري بين الصين وروسيا إذا استمر المسار الحالي، رغم أن البعض تساءل عن مدى قوة مثل هذه الشراكة عند اختبارها، بالنظر إلى تاريخ طويل من انعدام الثقة بين البلدين. هنا تأتي أفغانستان إذا تمكنت «طالبان» من إنقاذ بلدها من أن يكون دولة فاشلة. وكما تمكنت فيتنام من النجاح وأن تكون لاعباً رئيسياً في نظر الولايات المتحدة، فسترى «أفغانستان طالبان» أن الولايات المتحدة سوف تسعى لشراكتها وضمها إلى الجبهة في مواجهة الصين. إذن يمكن لأفغانستان أن تلعب الدور نفسه الذي انتظرت طويلاً فيتنام القيام به؛ لأن أميركا تستطيع أن تتناسى أنها صرفت تريليوني دولار ثمن إقامتها 20 عاماً في أفغانستان، لكن أفغانستان المحتاجة لأي شيء ولكل شيء، لن تستطيع تناول وجبة مجانية على طاولة الصين.
أميركا تحشد... لديها عَدوان؛ واحد أساسي مطوق على الخريطة بدائرة حمراء (الصين)، والآخر عدو طبيعي تسبقه دائماً الولايات المتحدة بخطوات مهما تضخمت البروباغندا (روسيا)... الاثنان أعينهما شاخصة صوب أفغانستان. وإذا كانت أميركا أنذرت أهم حليف لها؛ إسرائيل، بتخفيف اندفاعها نحو الصين، فإن على أفغانستان المحتاجة والتي تنادي الآن بعلاقات جيدة مع أميركا، أن تختصر المسافات والأخطار وتنظر إلى المقبل من الأيام وتقول: «صباح الخير أميركا... من أفغانستان».