بقلم - سمير عطا الله
فاتني أن أذكر أنني غفوت بمجرد أن اتخذت طائرتنا مسارها في سماء أكثر ازدحاماً من الأرض. وتبيّن لي أن «طائرة الجيب» هذه تحلق على ارتفاع يفوق ارتفاع الطائرات الكبيرة. وهي على الأرض أخف حركة وظلاً. وسرعان ما تقوم بينها وبين الناس ألفة. والدليل أن الطيار الذي يتولى أيضاً توضيب الحقائب، استمر في الاتجاه نحو الصالون الخاص حتى كاد يلامس بوابته الزجاجية. ولا أعرف لماذا تسمي بعض المطارات العربية الصالون الخاص «صالون الشرف»، أو ما هي العلاقة بين الصالات المميزة وبين الشرف، الذي اشترط المتنبي «أن يراق على جوانبه الدم» كي يسلم من الأذى.
وفق الترتيبات كان هناك موظف لاستقبالنا. ذهب بالجوازات وعاد في دقائق. وكان هو أيضاً السائق الذي سوف ينقلنا إلى الفندق في «ميني فان». لم يختلف المنظر من نافذة «الميني فان» عنه من نافذة الطائرة. ريكيافيك لم تفق بعد، وهي ليست باريس لكي يغني لها سيد درويش أجمل أغانيه وأجمل أغاني المدن مثل القاهرة التي تصحو على أغنية «طلعت يا محلا نورها، شمس الشموسة».
لا مواعيد ثابتة للشروق في ريكيافيك. ولا لهبوب البراكين. ولا لحركتها. ولهذا، عليك أن تبقى في حالة تضرع دائم إلى باريك بأن تظل الحمم ساكنة خامدة إلى ما بعد انتهاء الزيارة غير المفاجئة.
توزع ركاب الطائرة وطاقمها على غرفهم لشيء من الراحة. أما أنا، فكان يشغلني ألا أضيّع هذه الفرصة. فما دامت الواقعة قد وقعت، لا بد من الإفادة منها. إن المرء يأتي إلى آيسلندا مرة واحدة في العمر، ومن دون سابق تصور وتصميم، لكنه يغادرها مع سابق جزم وحزم. لذلك «لم يطل ليلي / لكن لم أنم». وما إن أصبحت التاسعة صباحاً، حتى توجهت إلى مكتب الاستقبال. شرحت للموظفة «عن حالتي» كما كان يغني الراحل فهد بلان، وقلت إن معي يوماً واحداً في بلادكم الجميلة، فما هي أنسب الطرق لتمضيته؟ أطرقت بدورها قليلاً ثم قالت: في مثل هذه الحالات نعرض على ضيوفنا برنامجاً مركزاً: نهار كامل بيننا وبين جارتنا غرينلاند: 8 ساعات، نصفها طيران، و4 ساعات للتمتع بجمال غرينلاند!
لا أعرف أي ألوان امتقعت على وجهي. ولكنني استطعت أن أقرأ على وجه الموظفة خوفاً وحيرة كأنها ارتكبت إثماً. ثم استجمعت شجاعتها وسألت: هل حدث شيء ما؟
قلت لها: كنت أعرف أن العالم صغير، لكنني لم أكن أعرف أنه صغير درجة... لغرينلاند.
إلى اللقاء...