بقلم - سمير عطا الله
اليوم التالي كان عليّ العودة إلى بيروت. البحر من أمامكم والبحر من ورائكم. رحلة أخرى هادئة وممتعة. الشعور بالخوف لا يبدأ فوراً. ولكن بعد فترة كان لا بد من مواجهة المسألة: هل يمكنني التوقف عن السفر؟ حياتي المهنية نصفها سفر على الأقل، وحياتي الخاصة كلها سفر. فإذا أغلقت في وجهي الجو، ماذا يبقى؟ البحر طبعاً. هيّا إلى البحار والمحيطات، يا فتى العرب.
لكن سفر البحر بطيء وطويل، فكيف يمكن أن تمضي نصف وقتك على الطريق؟ يمكن. ما من حل آخر. وعبد الوهاب كان يغني «بالبرّ لم فتكم/ بالبحر فتوني». وماذا يشكو اكتشاف البحر؟ خوفاً من الشماتة والسخرية، كان علي أن أخفي عن «النهار» أنني من أجل الوصول إلى باريس، أستقل الباخرة من بيروت إلى الإسكندرية. ومن الإسكندرية إلى مرسيليا، ومن مرسيليا، بالقطار، إلى موعد الانتخابات في باريس. إنه أهم جزء من عملي ولن أتخلى عنه من أجل البقاء خلف المكتب في شارع الحمراء. وبدل الكتابة عن معركة الحزب الاشتراكي، أكتب عن «قوى الشعب العامل». ورحم الله صديقنا كمال شاتيلا، فقد كان غاية في الظرف والطلاقة، لكن الانطباع العام أنه كان هو الحزب، وهو قوى الشعب العامل، والعاطل عن العمل.
الفارق بين السفر في البحر، والسفر في الجو، حتى في الستينات، أن هناك عشرين رحلة جويّة في اليوم، ورحلة بحرية واحدة في الشهر. وهناك عشرون شركة طيران، وباخرة إجبارية واحدة، قد تكون إيطالية فيها غناء، وقد تكون الباخرة الروسية «أوديسا» التي تقدم قطعة من اللحم البقري وشيئاً من الأرز المهروس. للفطور. وهناك أحياناً باخرة تركية صغيرة. المهم أن تضعك على أول أرض أوروبية، وهناك تجد في انتظارك أرقى وسيلة سفر اخترعها الإنسان لنفسه: القطار. المئات منها. دقة وسلوى ومناظر، وغالباً، رفقة وأنس ومواعيد كاذبة سلفاً من الفريقين.
يساعدك في محاولات الغش البريء وتمضية الوقت، إلمام باللغات. بصرف النظر عن جنسية جارتك، اللغة ليست عائقاً، هناك اللغة الأم لجميع الشعوب، أي الإنجليزية، ثم هناك لغة الخليط، كلمة ألمانية، جملة إيطالية، إو إيماءات إسبانية، «فيفا إسبانيا».
لكن البحر عالم جديد. عالم هائل سحيق، أزرق سماوي، مخادع حساس، هادئ، متوتر، خطر، وعذب. وكما غنت فيروز «شايف البحر شو كبير، كبر البحر بحبك».
وقد أطلقت تلك التنهيدة في فضاء الحب، لأنها لم ترَ البحر إلا في أنطلياس. وعلى أقصى حد في منزل «الروشة» حيث الصخرة الكبرى، بدل أن تغري الناس بالحياة تغريهم بالانتحار. وهكذا، تحول أجمل مشهد صخري في المتوسط إلى عنوان اليأس الأخير.
إلى اللقاء...