بقلم - سمير عطا الله
مطلع هذا القرن، وهذه الألفية، 23 سبتمبر (أيلول) 2000، في اليوم الثاني من انتفاضة الأقصى الأولى، قبل نحو ربع قرن من الآن، جمال الدرة يعبر الطريق مع ولده محمد (12 عاماً) عندما وقعا وسط تبادل النار بين الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن الفلسطينية. ضم جمالُ محمداً إلى صدره واحتميا بجدار إسمنتي. صرخ محمد مستغيثاً: أنا محمد يا أبي. لم يتمكن من إكمال الصرخة التالية.
بكى العالم أجمع لمشهد دام 49 ثانية على شاشة القناة الفرنسية الثانية. وخُيّل لهذا العالم أن مشهد محمد الدرة، سوف يقلب التاريخ: لا جيش «الدفاع» سوف يطلق النار على الأطفال بعد الآن، ولا إسرائيل سوف تشردهم في الطرقات. وأن عتاة اليمين الإسرائيلي سوف يتأملون جيداً الصورة أمامهم، ويدركون أنهم إذا لم يخضعوا لحتميات الديموغرافيا، فسوف يختنقون بجثث الأطفال. ولن يبقى رصاص لقتلهم في الشوارع.
بعد ربع قرن، تضاعف عدد الأطفال المحمولة أجسادهم الصغيرة بين أذرعة آبائهم. أو أمهاتهم. أو أشقائهم. هذا محمد يا أبي. ويوسف. وشقيقتهما مريم. وبعد صورة محمد الدرة، ظن العالم أن العتاة سوف يعقلون، ويتذكّر نتنياهو أنه في وسط 400 مليون عربي، وأن لا حل إلا الدولتين، وشيئاً من المنطق وشيئاً من الحقوق؛ فإذا به يعود إلى نبوءات إشعيا، والقرن الثامن قبل الميلاد. ونحن - ومعنا العالم أجمع - في الربع الأول من الألفية الثالثة بعد الميلاد.
كيف يمكن البحث عن حل أو عن عقل والرجل الذي يقوم قادة العالم بزيارته في تل أبيب، يعد أن مرجعه في هذا الصراع القائم على حافة العدم، عاش في القرن الثامن ق.م؟! أثناء غزو الكويت نشر الإعلام العراقي صورة لصدام حسين على حصان أبيض ومعها نبوءة للفرنسيين.
نبوءة للعراف الفرنسي الشهير نوستراداموس تقول إن فارساً على حصان أبيض سوف يظهر في الشرق ويحكم العالم. لم تصح لحسن الحظ. والآن نتنياهو بنفسه يعود إلى التنبؤات التوراتية كي يؤكد حقه في الإبادة الجماعية.
ليس القيادة العسكرية ولا القيادة السياسية، وإنما رجل من القرن الثامن ق.م هو من يقود «الشعب المستنير» ضد «شعب الظلام» في غزة، وفق فلسفة نتنياهو التقدمية لما يحدث الآن.
سمّت حنة آرندت هذا النوع من القناعات «تسخيف الشر». وكانت تقصد يومها الألماني أدولف إيخمان الذي كان يحاكم بتهمة «الهولوكوست». و«هولوكوست» غزة الآن أمر عادي طبيعي تنبأ به إشعيا. تصبح الحروب والكوارث أكثر رعباً، ليس عندما نكون في يد العسكريين، بل في يد العرّافين. وكان العالم يعتقد أن سر إسرائيل هو تقدمها التكنولوجي وحداثة سلاحها الجوي والمخابراتي. لكن الآن يتبين أن السر مكنون في «سفر إشعيا».
طبعاً يخاطب نتنياهو من خلال الإثارة الدينية، أركان آلة الحرب والدمار والإبادة. وحسب إشعيا، عليهم أن يدركوا أنها معركة القدس الأخيرة، ولن تكون بعدها حروب. لذلك لا بدّ من كل هذا الجحيم، وبعده الانتصار والراحة التامة.
بعض كتّاب إسرائيل يقولون إن خطب نتنياهو أفضل دعوة لإقالته.