بقلم : سمير عطا الله
كل فترة تمتحن البشرية ضميرها. ويكون ذلك من خلال طفل يجسد براءة الكون ونقاء النفس. لم تغب صورة محمد الدرة، متجمعاً على ذاته، يحاول أن يتقي بيديه الصغيرتين، رصاص الجيش الإسرائيلي. ولن تغيب صورة ريان أورام في بئر عمقها 32 متراً، وقد وضع يده تحت رأسه، كوسادة، تسعفه على تحمل تعب الأيام الخمسة، وقلق اللحظات ورعب الانتظار. لم تكتب نهاية سعيدة لملحمة البئر الجافة، لكن الملحمة نفسها كانت سيرة من البطولات: أولاً هذا الطفل الرائع، يصبر على مشاعر الخوف والألم والجوع، ويبحث في طفولية عن وسيلة يهدئ بها ذعر الأم الواقفة عند باب البئر. وثانياً رجال الإنقاذ الذين يدركون أن أي حركة خاطئة قد تودي بالطفل، وثالثاً آلاف الناس الذين جاءوا من كل المغرب إلى صقيع الريف، يدعون ويصلون ويكبرون بأصوات عالية وبكاء عميق.
قبل أيام خسر المغرب مباراة كأس أفريقيا أمام مصر، وصدرت الصحف بعناوين غاضبة على المدرب والفريق مثل: «المصريون حنطونا»، لكن المغرب ما لبث أن ربح معركته الأهم: الملك والشعب والجيش، في حالة تأهب قصوى، من أجل طفل، وفجأة وعلى نحو قدري، تخرج من العالم العربي صورة الضمير الجمعي. طفل يُحزن الأمة في ضعفه، فينسى العالم صور الأطفال الذين يجندهم الحوثيون في اليمن، والأنصار في العراق. وحيث الدولة العريقة هي الحكم والسلطة، تؤكد للناس أن حياة طفل هي رمز لحياة الإنسان والمواطن. ولذلك اختار محمد السادس أن يبلغ المغاربة بنفسه صدمة الموت، إنها خسارة للأمة في الحزن، ومكسب لها في موقعها من مُثُل الإنسان.
ملحمة من بطولات كثيرة، تلك الأيام الخمسة في شمال البلاد. دائماً، دائماً، بطلها الأول الطفل الذي أرسل إليه الطعام والأكسجين بالأنابيب. ابن خمس سنوات يقضي خمس ليالٍ في عتمة أبعد من أي ظلمة. وبهذه البطولة العجيبة في قلب الظلام، تحلق روحه فوق القارات والبلدان والحدود، وتفحم الإنسانية فيها في سلم السمو والرفعة الأخلاقية. في أنحاء العالم، لا يسأل أحد هذه المرة عن ديانة ريان وبشرته والحزب الذي ينتمي إليه. هنا يطغى على الإنسان كل ما هو عالٍ فيه. وتهتف الجماهير طوعاً للسلوك السامي، وتنتصر على غرائزها، وتصير البطولة هي الرأفة وليس الرعب والإرهاب والغطرسة.
ما هذا الامتحان العصيب الذي أدخلت به العام يا ريان. كم نفساً شهقت وكم قلباً تضرع وهم يسمعون نداءك الأول «ارفعوني»! ثم توسدت ساعدك، ونمت.
نمت لكي تترك للعرب أن يظهروا انتصار الإنسان فيهم. إنهم ليسوا الرجل الذي يفجر عائلته ونفسه في إدلب، ولا الذين يفجرون الأبرياء في الطرقات، ولا الذين يشردون الآباء والأمهات في براري الحياة وبحار الموت. ويا ريان، وسط هذا الاحتفال بالموت والقتل والانتحار، أصبحت رمزاً للاحتفال بالحياة والخلاص. كان العالم كله يصغي إلى صوتك الطفولي الحزين ينادي: ارفعوني إلى فوق. إلى الحياة، إلى أمي وأبي وإخوتي، إلى طفولتي وشبابي ومستقبلي. ومن يرد الموت منكم فليمت وحده.