بقلم : سمير عطا الله
العام 1929 حقق البريطانيون سبقاً علمياً على الأميركيين ومن قلب نيويورك أيضاً: أول نقل تلفزيوني مباشر على عدسة «البي. بي.سي» تلقف الأميركيون الاختراع المذهل كالمعتاد، وأخذوا، منذ 1951، يصرفون المليارات على تطويره. أولاً في التغطية الداخلية، ومن ثم رأينا «السي. إن. إن» تحمل إلى غرفة كل فندق في العالم، كل ما يحدث طوال اليوم في أنحاء العالم. وبعدها صار لكل البلدان وكل الأحداث وكل الحروب قنوات تنقلها Live لحظة بلحظة.
مقلقة صور هذا العالم، Live، في الماضي كانت صور قصف البيوت وحرقها تنقل لاحقاً بعد اختيارها و«تحريرها». فلا ترى جثة طفل ملقاة على الأرض، أو امرأة عمياء تعدو هرباً متكئة على ذراعي رجلين مذعورين هما أيضاً، لكنهما قادران على رؤية درب الهروب. أو طفل على الحدود البولندية يلعب ضاحكاً لأنه لا يدرك لماذا هو هنا بين الآلاف من الناس، أو آلافاً من البشر يسيرون في طرقات لا تعرفها إلى أماكن لا تعرفها ولا تعرف من رماها، ولماذا، إلى الثلوج والجوع وقطع مئات الأميال مشياً، أو مشهد مدينة جميلة متحضرة يدوي فيها صوت الغارات وصوت اليائسين والبائسين، أو مشهد مجموعة هاربة من بيوتها المحترقة تُقصف فجأة على طريق الفزع وهي لَما تُبعد بعد عن منازلها المحترقة.
مخيف ومحزن هذا العالم عندما تراه Live لأنك ستسمع فلاديمير بوتين، يعلن أنه يفعل هذا من أجل تخليص أوكرانيا من النازية وهمجياتها. ذلك هو الهدف النبيل من دك المدن والقرى وطرق الهرب. لا نازية بعد اليوم. وليفهم ملايين اللاجئين أولاً وأخيراً.
لكن قبل ذلك هناك بعض الخطوات الديمقراطية الأساسية: إسقاط الحكومة القائمة، إلغاء الرئيس، توقيع الضحية في الموافقة على استسلامها واحتقار نفسها وتمجيد احتلالها.
كل هذا Live. من لا يصدق هذا الموقف ليس عليه إلا أن يدير قناته المفضلة. الصورة نفسها على كل القنوات. المحللون يحاولون قراءة أفكار بوتين، الحلف الأطلسي يفيق من النوم ويفرك عينيه. وعلى حدود رومانيا، أفقر بلدان العالم، فلاحة فقيرة ذات اختصاص: توزيع ألواح الشوكولا من سلتها على أطفال اللاجئين وحدهم. وعلى الحدود الأخرى، الدولة الأكثر فقراً، مولدوفا، تستقبل وتطبخ وتخبز. وLive يسأل لاجئ معه عائلته: هل نحن على حدود بولندا؟ فيقول له الشرطي، أنت على حدود مولدوفا، فيعود ويسأل، كم تبعد بولندا من هنا؟ يقول الشرطي وهو يدير وجهه حزناً: 250 كيلومتراً. Live.
هل تنام، يسأل لاجئ الآخر؟ أنام؟ أنا في كابوس يدوم 24 ساعة. لكن أحداً لا يعرف كم يوماً سوف يدوم، كم شهراً، كم سنة. المحللون والسياسيون والناطقون الرسميون ليس لديهم أي شيء من التفاؤل يعطونه للناس. يقاطعهم، في البث المباشر، صوت صفارات الإنذار في أنحاء كييف الغارقة في العتم. كم تقدم العالم. كل هذا Live أمامك لحظة بلحظة. مع الأسف، السلام متأخر جداً. الرجل منشغل في تدبير أمنه الاستراتيجي.