من قراءة الأوضاع الأميركية يظهر أن علينا ألا نتوقع انتقالاً سلساً للسلطة، بين اليوم و20 يناير (كانون الثاني) المقبل، من إدارة الرئيس دونالد ترمب الحالية إلى الإدارة العتيدة للرئيس المنتخب جو بايدن.
بداية، لا مؤشرات جدية حتى الآن على نية ترمب الاعتراف بنتيجة الانتخابات... ناهيك من عمله على تسهيل مهمة غريمه. ثم إن «حركيي ترمب» اليمينيين المتحمسين ماضون في شد أزره، ومباركة إصراره على التشكيك في النتيجة والطعن عليها في كل ولاية من الولايات المتأرجحة، رغم النكسات القضائية المتتالية.
أضف إلى ذلك، أن التصويت الأخير للمحكمة العليا برفض أي تضييق على التجمعات الدينية - في معاكسة صريحة لتبني حكام بعض الولايات التوصيات الصحية بالتباعد الاجتماعي في ظل تفاقم جائحة «كوفيد - 19» - تطوّر يرفع معنويات ترمب، ويدفعه إلى تصعيد التحدي وصولاً به إلى هذه المحكمة، حيث بات يضمن الولاء شبه المطلق من غالبيتها بعدما عيّن فيها ثلاثة قضاة من اليمين المحافظ المتشدد.
وأخيراً، بعد كل ما تقدم، يدرك الرئيس ترمب ومخطّطو تياره، أن أداء خصومه الديمقراطيين كان متواضعاً نسبياً، إذ تقلصت غالبيتهم في مجلس النواب، وعجزوا - لتاريخه - عن انتزاع غالبية مجلس الشيوخ. وفي هذا تأكيد على أن تفوق بايدن - في عدد الأصوات الشعبية - لم يأتِ بسبب شعبية سياسية يُعتد بها ويُبنى عليها، بل بسبب تلاقي مختلف أطياف كارهي ترمب على التصويت ضده.
مع هذا، ففي اتجاه معاكس تماماً، ثمة قوة أخذت ملامحها تتضح أكثر فأكثر، لا تجد مصلحة لها في بقاء الأمور معلّقة والثقة السياسية والاقتصادية والمالية بالولايات المتحدة متذبذبة وقلقة. هذه القوة هي قطاع مجتمع المال والأعمال ذو المصالح الاستثمارية والاستراتيجية العابرة للحدود، الذي يهمه الانتقال السلس، وتقبل التغيير، ورفض القلاقل المدمرة للاقتصاد.
ممثلو هذا القطاع، وحدهم تقريباً اليوم، في موقع يؤهلهم لمواجهة التيار الشعبوي الذي ركبه ترمب عام 2016 ورهن كل شعاراته وسياسته لخدمته. وليس صحيحاً البتة أن القوة التي تستطيع مواجهة «اليمين المتطرف» المتجسّد في ذلك التيار الشعبوي قوة معاكسة ومقابلة من معسكر «اليسار المتطرف»، وذلك لسببين رئيسيين:
الأول، أن «اليسار المتطرف» - إن وجد - ضئيل الحجم وضعيف التأثير، بخلاف الدعاية والضوضاء اللتين تثيرهما قوى اليمين ومنابره، مثل قناة «فوكس نيوز» وصحيفة «نيويورك بوست» وغيرهما.
والثاني، أن ما يُسمى «اليسار» منقسمٌ على نفسه بشدة، ولا يشكّل مجموعة متجانسة عرقياً أو ثقافياً أو جغرافياً أو طبقياً، بدليل أن الحزب الديمقراطي مُني بنكسة حقيقية في البيئات الأميركية اللاتينية التي كان يراهن عليها. ولئن كان موضوع لاتينيي فلوريدا قد ازداد إيلاماً بالنسبة للديمقراطيين بعد انضمام لاجئي فنزويلا إلى اللاجئين القدامى من كوبا دعماً للحزب الجمهوري وسياساته المحافظة، فإن لاتينيي الحدود المكسيكية في ولاية تكساس لم ينقلبوا على ترمب رغم دعوته لبناء «جدار الفصل» عن المكسيك.
«قطاع مجتمع المال والأعمال ذو المصالح الاستثمارية والاستراتيجية العابرة للحدود»، ولنستخدم له هذا الاسم كاملاً، يختلف مصلحياً عن قطاع صغار رجال الأعمال والمقاولين والمهنيين والحرفيين الذين سبق لهم أن انجذبوا في أواخر عقد السبعينات وخلال عقد الثمانينات من القرن الماضي إلى شعبوية رونالد ريغان و«وطنيته» الأميركية، ثم انجذبوا مجدداً مع شعبوية ترمب و«وطنيته» منذ 2016.
هنا علينا التحدث عن فارقين اقتصادي واستراتيجي بين الحالتين.
الفارق الاقتصادي البحت يتمثّل في تبني ريغان أقصى درجات «تحرير» الاقتصاد الرأسمالي وتقليص دور الدولة وتعزيز والخصخصة، مقابل اعتماد ترمب شعارات حمائية تدخلية صريحة رافضة للأسس الفلسفية للحرية الاقتصادية. أما الفارق الاستراتيجي فيتعلق بموقع الولايات المتحدة في العالم. ذلك أنه إبّان عصر ريغان و«الثنائية القطبية» كان المنافس الأكبر للولايات المتحدة الاتحاد السوفياتي، المترهّل واقتصاده التقليدي الموجّه وقطاعه العام المتضخم وصناعاته اللاتنافسية. أما اليوم، بعد سقوط البديل الشيوعي وزحف العولمة والتكنولوجيا المتقدمة، فقد تعدّدت الأقطاب وبرزت الصين قوة ضخمة بلا حمولة آيديولوجية زائدة، انضمت إلى كل من اليابان ثم كوريا الجنوبية، في غزو السوق الأميركية نفسها... وهو ما أيقظ عند ترمب «حمائية الدفاع عن النفس».
نعم. بعدما كانت واشنطن ريغان تحطّم جدران الآخرين، وعلى رأسها «جدار برلين»، رأت واشنطن ترمب مصلحة لها في بناء «جدار المكسيك» لحماية مصالح الداخل من غزو الخارج. وبعدما مارست واشنطن ريغان سياسة الذراع الطويلة لحماية النفوذ الأميركي، صار سحب القوات الأميركية ممارسة يعدها ترمب نصراً لشعار «أميركا أولاً» الانكفائي.
في مطلق الأحوال، ما يهمّنا كعرب هو ما يمكن أن تحمله الفترة الانتقالية، حتى 20 يناير - ما لم يحصل ما ليس في الحساب - للمنطقة العربية وقضاياها الساخنة. وما يمكن قوله هو التالي:
1- لا مؤشرات لوجود رغبة عند ترمب في فرش طريق إدارة بايدن بالزهور، وهذا، من دون أن يعني بالضرورة تعمّده افتعال أزمات وحروب تشغلها وتنهكها وتعطل سياساتها.
2- من الصعب أن نتخيّل انتهاج إدارة بايدن السياسات نفسها التي انتهجتها إدارة ترمب... ولكن من المستبعد أيضاً أن تقلب مقارباتها بالكامل. إذ إن الخلفيات والاعتبارات والمعطيات الإقليمية تغيّرت، وفي طاقم الرئيس المنتخب رؤى قد لا تكون متطابقة تماماً مع رؤى إدارة باراك أوباما.
3- ثمة لاعبون إقليميون قد يستغلون الأسابيع المقبلة لبلورة أولوياتهم والتعبير عنها، ولا أتوقع أن يبقوا مكتوفي الأيدي. وإذا كانت عملية تصفية المسؤول النووي الإيراني محسن فخري زاده في طهران، عملية خارجية - وهو المرجّح - فهذا يعني أن البعض في إدارة ترمب، أو بعض الجهات في إسرائيل، لا يريدون السماح لمناصري طهران داخل الحزب الديمقراطي باللعب لكسب الوقت، ولن يقبلوا إعادة الأوضاع إلى ما قبل 2016.
4- الدور الروسي مع كل من إسرائيل وتركيا وإيران، يستحق الرصد ويُتوقع أن يكون عاملاً مؤثراً في رسم واشنطن سياساتها الإقليمية. ولعل موسكو في عهد الديمقراطيين الجديد لن تشعر بالطمأنينة إزاء سياسات واشنطن كحالها إبان سنوات ترمب... عندما أضحت الصين لا روسيا «العدو الأكبر».
الأسابيع المقبلة حساسة وحاسمة، والاستشراف والاستثمار والتحسب... أولويات تستحق أن يحسب حسابها.