وسط الركام والفراغ السياسي والأزمتين الاقتصادية والصحية المستحكمتين في لبنان، فجّر رئيس الحكومة اللبناني السابق ، بالأمس، {قنبلة} سياسية حقيقية عندما كشف في مقابلة حوارية تلفزيونية طويلة أنه {مرشح طبيعي} لرئاسة الحكومة.
في ظروف {طبيعية} كلام من هذا النوع {طبيعي} أيضاً. كيف لا وهو زعيم أكبر كتلة نيابية {سنّية} وفق المعايير الطائفية المعمول بها في لبنان. ثم أنه – حتى الآن، على الأقل – يحظى بدعم أربعة من رؤساء الحكومات السابقين (هو أحدهم) الذين يمثّلون المسلمين السنّة على أعلى مستويات التمثيل السياسي الطائفي دستورياً وميثاقياً.
ولكن ما يستوقف المحلل السياسي الجاد هو ما الذي تغيّر من المعطيات يا تُرى حتى تحوّل رأي سعد الحريري، الزاهد في السلطة، عندما استقال مع حكومته تجاوباً مع انتفاضة الشارع في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي؟
في الواقع حصلت ثلاثة أمور مهمة جداً، بالتوازي مع الانهيار المالي والاقتصادي السريع، بما في ذلك السقوط الحر لسعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي.
الأول، هو أنه بعد استقالة الحريري وحكومته {التوافقية}، التي شلها انعدام التوافق والإمعان في التطاول على فكرة الدولة وروح الدستور والوفاق الوطني، ذهب الشعار الثوري الساذج {كلّن يعني كلّن} (كلّهم يعني كلّهم) أدراج الرياح... إذ لم تسقط {الانتفاضة} إلا الضلع الأضعف في {ثلاثي الحكم}، أي رئيس الحكومة السنّي في حين لم يكتف الضلعان الآخران، أي رئيس الجمهوري المسيحي ورئيس البرلمان الشيعي – المدعومان بقوة من حزب الله، قوة الأمر الواقع في البلاد – بتثبيت موقعيهما... بل عمدا أيضاً إلى فرض رئيس حكومة سنّي من خطهما السياسي.
والثاني، هو جائحة {كوفيد-19} التي ضربت لبنان، كما ضربت العالم أجمع في مطلع العام 2020. إلا أن الفارق هنا كان مفاقمة الجائحة وتداعياتها هشاشة الوضع المعيشي اللبناني. وكان تأثير الجائحة قاتلاً للقطاع السياحي وغيره من قطاعات الخدمات، وذا تأثير كارثي على التحويلات المالية والاستثمارات من العالم العربي، خصوصاً، ومن باقي دول العالم بصفة عامة.
والثالث، يوم 4 أغسطس (آب) الماضي، وهو التفجير (أو التفجيرات) في مرفأ بيروت، الذي قتل نحو 200 شخص وجرح حوالي 5 آلاف، ودمّر نحو نصف مباني العاصمة ملحقاً خسائر في العقارات فقط قدّرها بما يقارب 5 مليارات دولار أو يزيد. {كارثة مرفأ بيروت} هذه عجّلت في نهاية {حكومة سلطة الأمر الواقع} الالتفافية على الشعب اللبناني و{انتفاضته}.
وهكذا، كان لا بد من مبادرة ما مع تسارع الانهيار والاستعصاء في بلد جريح مفلس، بلا حكومة، ولا ثقة مالية، وجيوش من المواطنين الحالمين بالهجرة... في منطقة هي أصلاً على مفترق طرق سياسي وأمني، تنام وتصحو في أجواء سنة انتخابية أميركية بكل تأثيراتها الدولية.
وفعلاً، في ظل انشغال واشنطن دونالد ترمب في مواجهة {كوفيد-19} وآثاره الاقتصادية في الداخل الأميركي، و{نشاطها} الشرق أوسطي المتسارع في المسارين الإسرائيلي والإيراني، اللذين هما الأشد تأثيراً على لبنان، جاءت المبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصياً.
لم يكتف الرجل بزيارة واحد إلى لبنان، بل قام بزيارتين، حاملاً ما اعتبره مسوّدة لتسوية تقوم على تشكيل {حكومة مهمة} تقيل البلاد من عثرتها وتضعها على السكة السليمة، مع الافتراض {البريء} بأن يتحقق ذلك بمعزل عن {شطارة} الطبقة السياسية التي هي أساس كوارث لبنان، أقله منذ وضعت {الحرب اللبنانية}أوزارها عام 1990.
أكثر من هذا، ولأسباب تفصيلية ما زالت غير واضحة المعالم والتفاصيل، واكبت مهمة الرئيس الفرنسي متابعة عبر مسؤولين كبيرين في وزارة الخارجية الأميركية هما ديفيد هايل وديفيد شينكر. وجاءت هذه على وقع الاختراقات التي حققتها واشنطن على صعيد فتح باب العلاقات الدبلوماسية خليجياً مع إسرائيل.
كما نعرف، فتحت مبادرة ماكرون ثغرة في جدار الأزمة عندما كُلّف السفير اللبناني لدى ألمانيا مصطفى أديب، بتزكية من رؤساء الوزراء السابقين لتشكيل {حكومة المهمة} غير السياسية. ولكن، بما أن في لبنان شياطين كثيرة - في التفاصيل وغير التفاصيل - تمكنت قوى الأمر الواقع، الممسكة بقرار الحرب والسلم، وبالتالي، الحكم، من إفشال مهمة أديب عبر إصرارها على شروط طائفية وسياسية لها تفرغ المبادرة الفرنسية من جوهرها، وتحولها إلى مهزلة. وكما يفعل أي شخص يحترم نفسه، قرّر أديب الاعتذار وحزم حقائبه عائداً إلى برلين.
كانت هذه التجربة المؤسفة سقوطاً لمقاربات تلامس قشرة الأزمة، وتتذاكى في الهروب من مواجهة بيت الداء.
لقد تجاهل الرئيس الفرنسي، كما يتجاهل البعض في واشنطن، الحقيقة الأساسية إزاء ما يعاني منه لبنان اليوم. ولئن كان ولا يزال صحيحاً أن أصل الخلافات اللبنانية – اللبنانية داخلي، فإن هذه الخلافات كانت تخبو ثم تندلع بتأثير مؤثرات وتدخلات إقليمية.
نعم، جوهر النزاعات اللبنانية داخلي، بل هو طائفي عشائري في المقام الأول. غير أن {التقية السياسية} التي أجادتها العشائر والطوائف لقرون سمحت لها بالتوافق على {هدنات} طويلة، قبل أن تنزع إحدى العشائر الطائفية إلى استغلال اختلال في الظروف الإقليمية ... من أجل تحقيق الغلبة لها داخل الكيان. وحقاً، سقطت كل {الهدنات} بين هذه العشائر بسبب الاختلالات الإقليمية والحسابات الدولية. وها نحن اليوم أمام اختلال كبير زرع وجوده في لبنان عبر تأسيسه {دولة داخل الدولة}.
ماكرون، الذي يعتبر نظام إيران في الشرق الأوسط واقعاً ينبغي التعايش معه، يؤمن أيضاً بأن ميليشيا حزب الله ممثل مكوّن لبناني أساسي لا يصح تجاوزه. ومن ثم، أغفل العلاقة العضوية بين {النظام}و{الحزب}، ومشروعهما المشترك على امتداد المنطقة.
من جانبه، إذا كان الرئيس الحريري مقتنعاً بأن الحل هو ما رأه ماكرون، فهل يتوقّع من الذين خدعوا ماكرون، وسبق لهم أن خذلوه غير مرة، سيصدقونه القول والفعل؟
ألم يقل، صراحةً، خلال مقابلته أن {البعض يستعمل فائض القوة لفرض معادلات على اللبنانيين والشعب يرفضها ... وأن في البلد مشروعين: الأول يحمله حزب الله وحركة أمل مرتبط بالخارج، وهناك مشروع يريد أن يخرج البلد من الأزمة ويحرّره من الأحزاب ويشدّد على أن المواطن اللبناني أولاً...}؟
سؤالان يستحقان إجابتين واضحتين!