كما لا يمكن حكم تونس بالرقية الشرعية، أو «الإخوانية»، فإنها عصيّة أيضا على الزواج العرفي بين الاسلاميين والحداثيين من«الليبراليين والعلمانيين»، كما لا يصح، ولا ينفع، أن تسير الأمور كما تسير الآن ، ثم يقول البعض إننا بدأنا على طريق الديمقراطية، وعلينا تقبل «حسابات الربح والخسارة»، أو حسابات «التجربة والخطأ»، خاصة أن الواقع كما هو الآن في الإقليم العربي، نعرفه جميعا، ولسنا في حاجة إلى تكراره، ولا إلى إعادة تذكير بحقائقه.. وأبسط تلك الحقائق وأخطرها و«أسوأها» أن الساحة العربية فيها من يعرف كيف يتوضأ بالدم ـ من اليمن إلى ليبيا وسوريا، وأطراف العراق الشمالية والغربية، وشمال سيناء المصرية، وداخل نقاط محورية من عواصم دول عربية أخرى من بينها تونس بالطبع ـ ولكن ليس فيها من يعرف كيف يصلي صلاة الجماعة، على حد تصوير شاعر فارسي قديم !!
وكان واضحا في تونس بعد الثورة الشعبية، أن هناك شراكة قلقة بين حركة النهضة الإسلامية “الإخوانية”، وبين حزب «نداء تونس» الحداثي العلماني الوسطي الليبرالي، وسط زحام اختلط فيه الحابل والنابل .. وكان واضحا ـ أيضا ـ أن التاريخ يتحرك والسياسة عاجزة .. وإيقاع التغيير لا يتناسب وتطلعات ومطالب الشعب التونسي..والآن .. وفي تلك اللحظة المتزاحمة بالمطالب والضرورات، بين مطالب القلقين والمتشككين معا، وبين صراعات التجاذبات الحزبية والسياسية، يبدو ـ فيما اتصورـ أن «رئيس الوصية»، قد أصبح بالفعل «رئيس الضرورة».. ورئيس الوصية، هو الطبيب الزاهد ( وزير الدفاع المستقيل عبد الكريم الزبيدي ( والذي رافق الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، في ساعاته الأخيرة داخل المستشقى العسكري، و كان «السبسي» مرتاحا لمرافقة وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي له داخل المستشفى، واثقا في وزير دفاعه وكاتم أسراره، وأعتقد أيضا أنه وضع أمامه وصية حاكمة للتعامل مع المشهد السياسي والواقع التونسي، حين حمّله وصية الترشح للرئاسة المقبلة.. كان «السبسي» على موعد مع الموت، وربما كانت مؤشرات الرحيل أمام بصيرة
الرجل، ولذلك بادر بكشف أسراره لوزير الدفاع واثقا أنه يستطيع إدارة السفينة في تلك الأجواء والصراعات والتجاذبات الحزبية ومع تربص شياطين الإرهاب بالوطن.
وإذا كان المقربون من «الزبيدي» يصفونه بالزاهد في السلطة والسلطان والنفوذ، وعندما تولى وزارة الدفاع للمرة الثانية في العام 2017، رفض تسلم أي أجر إضافي على معاشه التقاعدي، وقرر أن يواصل الإقامة في منزله الشخصي، وتنازل عن امتيازات الوزارة.. ولذلك فإن ترشحه للرئاسة لم يكن برغبة شخصية منه ـ وهذا أمرطبيعي يتسق وشخصية الرجل الزاهد ـ وإنما جاء ترشحه وفاء للعهد وتنفيذاً لوصية الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي الذي لازمه في أيامه الأخيرة، حيث طلب منه أن يتحمل المسؤولية، وأن يخوض غمار المنافسة على كرسي الرئاسة ليضمن استقرار البلاد وسيادتها ـ بحسب تأكيد عدد من المقربين من الرئيس الراحل، وباعترافات أفراد من أسرته أيضا ـ وكان «السبسي» يرى في خليفته (بالوصية)، هو الأقرب لتوجهات الشارع التونسي، وأن وزير الدفاع العروبي الهادىء هدوءا أقرب للصمت، هو الرجل المناسب لإعادة تونس إلى «مقعد ثبات الاستقرار» بوجهها ووجدانها العربي ومزاجها الغربي.
ومسميات على شاكلة «رئيس الوصية»، عرفناها في مصر كثيرا.. ابتداء من الرئيس «الدوبلير» بالتعبير السينمائي،وهو اللواء محمد نجيب، وقد اختاره الضباط الأحرار الشباب ـ 23 يوليو 1952 ـ ليكون واجهة أمام الرأي العام المصري، باعتباره كبيرا في السن ورجل وطني، ولكنه لم يكن يعرف بتحركات الثورة إلا قبل ساعتين فقط، وفي نفس الوقت كان الضباط الأحرار في العشرينيات من العمر، وأكبرهم سنا لا يتجاوز 34 سنة، وهو زعيم الثورة جمال عبد الناصر، وكان المزاج العام المصري يحتم البحث عن رئيس دوبلير يقوم بالدور، (باختصار يلعب دور الرئيس)، حتى تستقر الأمور للثورة والثوار (كان المناخ العام المصري بل والعربي لا يولي اهتماما بدور الشباب وربما لا يثق في خبراتهم وطموحاتهم ).. ثم جاء فيما بعد «رئيس الصدفة» وهو الرئيس محمد أنور السادات، وكان تعيينه نائبا أول للرئيس عبد الناصر مفاجأة غير متوقعة بصفة مطلقة، وأثارت دهشة دائرة صنع القرار ومن تبقى من الضباط الأحرارفي السلطة، مما دفع حسين الشافعي للاستفسار غاضبا من عبد الناصر.. وقال ليّ الشافعي في أحد اللقاءات المطولة معه : «دخلت على عبد الناصر وقلت له : السادات ياريس !! لماذا وما هو السبب وكيف ؟ فقال عبد الناصر إهدأ ياحسين سوف تعلم
بعدين ؟ قلت له هل هي ضغوط ؟ قال : سوف أحكى لك فيما بعد!! ورحل عبد الناصر بعد شهور قليلة ولم تتح له الفرصة أن يفسر ليّ ما حدث !!!».
المعروف أن السادات كان ينزوي، ولا يشارك بشكل فعال ورئيسي فى الاجتماعات، و كان يتهم من الاخرين بالضعف وعدم معرفة الأمور، ولذلك تحير الكثيرون من اختيار عبدالناصر للسادات ليكون نائباً أول له، رغم أن تاريخ العلاقة المعلن بين الرجلين لم يكن بالقوة التى عرفت عن علاقة عبدالناصر بآخرين.. وتعليقا في هذا السياق قال أبرز وزراء خارجية مصر ـ وقتئذ ـ وأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق ـ محمود رياض: «لا أعتقد أن عبدالناصر كان يرى أن أصلح من يخلفه هو السادات، و إلا ما تركه فى هذا الفراغ السياسي الذى كان يعيش فيه السادات، لقد سألت الكثيرين و قرأت للبعض تفسيرات مختلفة، إلا أننى لم أجد تفسيراً منطقياً، و قد توصلت إلى أن هذا الموضوع بالذات سوف يبقى غامضاً للأبد!! ».. وهكذا جاء رحيل عبد الناصر المفاجىء ليجد «رئيس الصدفة» كرسي الرئاسة شاغرا أمام النائب الأول للرئيس عبد الناصر!!
و«رئيس الصدفة» الثاني، الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.. وكان تعيينه أيضا نائبا للرئيس السادات مفاجأة أثارت سخرية الشارع المصري وقتئذ واطلقوا على الرجل لقب «غير مناسب»، ويبدو للجميع أن السادات قد اختاره نائبا كـ «صورة» تكتمل بها أعمال رئاسة الجمهورية، ولم تكن لدى السادات مخاوف من شخص اختاره بعناية نائبا مطيعا له.. ثم جرت عملية إغتيال السادات (حادثة المنصة) ليجد مبارك نفسه أمام بوابة قصر الرئاسة، «رئيسا بالصدفة»..وجرت مياه كثيرة تحت الجسر وفي الوديان والأنهار، وهبت ثورة شعبية سقطت في حضن الإخوان والإسلاميين لتجد مصر نفسها أخيرا تبحث عن رئيس الضرورة .. ووقع الاختيار شعبيا على وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسي «رئيس الضرورة» لمصر، أي تفرضه ضرورات الواقع الراهن وضرورات المستقبل .
وكأن الأقدار التاريخية للشعوب تختار الرؤساء!!
واتصالا بما سبق ..يبدو أن تونس الآن أمام ضرورات الاختيار لرئيس الضرورة .. وهو
“رئيس الوصية”، الأقرب لمزاج الشارع التونسي.. وفيما أظن ان فرص “الزبيدي” أكبر في مواجهة منافسه العتيد «الإسلاميين» وتحت المظلة “الإخوانية”، وهو المرشح الأوفر حظا للفوز بالانتخابات الرئاسية المزمع اجراؤها في الخامس عشر من شهر سبتمبر/أيلول المقبل، خاصة في ظل التعاطف الشعبي الكبير الذي يحظى به.. وربما كان «الزبيدي» الحاصل على شهادة الدكتوراه في الطب من جامعة كلود برنار ليون في مدينة ليون الفرنسية، وعلى شهادة الماجستير في علم وظائف الأعضاء البشرية، والماجستير في علم الصيدلة الإنسانية، وشهادة دراسات وبحوث في علم الأحياء البشري..هو الأقدر على تفهم ملامح وأمزجة الشخصية التونسية.. واستطرد من هنا إلى ملاحظة جانبية لكنها مهمة.. فقد بادر الرجل بالفعل إلى الكشف عن توجهاته الوطنية والقومية من خلال تعهده :
أولا: تعهد بفتح ملف الجهاز السري لحركة النهضة الإخوانية فور فوزه، وكشف حقيقة الاغتيالات السياسية التي ضربت البلاد في العام 2013. واستعادة الأمن الاجتماعي، ومقاومة كل مظاهر الفوضى والجريمة ومكافحة الإرهاب بالتنسيق الوثيق مع القوات الحاملة للسلاح والأجهزة الأمنية والعسكرية والقضائية.
وثانيا: تعهده بتقديم مشروع استفتاء لتعديل الدستور والمنظومة السياسية والانتخابية، ومراجعه الموازنة بين احترام الديمقراطية والحريات، وضمان وحدة مؤسسات الدولة وفاعليتها في أجل زمني أقصاه 25 يوليو/ تموز 2020.
وثالثا: تعهد بإعادة فتح سفارة تونس بدمشق بكامل طاقمها في أجل زمني لا يتجاوز 20 مارس/ آذار 2020، مرجحاً في ذلك المصالح العليا للدولة التونسية والشعبين التونسي والسوري الشقيقين.
التعهدات الثلاثة ترسم بوضوح ـ لا لبس فيه ـ توجهات الرجل الوطنية والقومية، وقناعاته ومبادئه.. والملاحظة الجديرة بالاهتمام ، أنه رغم أن الزبيدي معروف بهدوئه وعدم انجراره للصراعات الحزبية، إلا أنه اختار “حربه العادلة” التي ينتصر فيها .. وكما يقال في مبادىء علوم السياسة الأمريكية، أن كل رئيس يحتاج إلى «حربه العادلةۚ» لينتصر فيها ويحفر بها اسمه على تاريخ أمته، وكان الرئيس بوش الإبن ـ مثلا ـ يتصور أن الظروف جاءت له بحربه الخاصة التي يراها ويقنع شعبه كذلك أن يراها عادلة (الحرب ضد الإرهاب) ..فإن حرب الزبيدي الخاصة التي يراها ويقنع شعبه كذلك أن يراها عادلة (الحرب ضد الإرهاب) ..فإن الزبيدي اختار حربه الخاصة والعادلة في مواجهة الجهاز السري للإخوان، وهي مواجهة يراها التونسيون عادلة بالطبع .. رغم أن «إخوان تونس» ـ وللأمانة ـ هم العنصر البارز في المشهد السياسي في هذه اللحظة، وهم عنصر شديد التعقيد، وشديد الحساسية، وشديد الخطورة.
كثيرون في تونس يتفقون على أن حظوظ الزبيدي كبيرة للغاية في بلوغ الدور الثاني من انتخابات الرئاسة، نظراً لما يمثله للتونسيين من رمزية سيادة الدولة الوطنية وحداثة المجتمع، وعدم التورط في الفساد، وعدم ارتباطه بالصراعات الحزبية التي ميزت المشهد السياسي في البلاد مؤخّراً، فضلاً عن كفاءته العلمية واكتسابه علاقاته دولية متوازنة.. ومن الملاحظ أن المترشحين للانتخابات الرئاسية ينتمون الى عائلات سياسية وفكرية مختلفة مثل: العائلة الإسلامية، والعائلة الدستورية، والعائلة اليسارية، وتجمع كثيرا منهم ما يسمى بالعائلة الوسطية، وحتى الان المنافسة تدفع لتشتت أصوات الناخبين، خاصة وأن هناك على سبيل المثال 4 مرشحين للإسلاميين، وفشلت محاولات التوافق على مترشح واحد حتى تتحقق إمكانية فوزه برئاسة الجمهورية..بينما يتوقع عدد من المراقبين، بإمكانية توافق بعض المترشحين حول المترشح عبد الكريم الزبيدي، وزير الدفاع المستقيل.
ولو تحقق للرجل الفوزـ وهوالاحتمال القائم والأقرب للواقع ـ فإن تونس تكون على موعد حقيقي «غير مزيف» مع الاستقرار والآمان الاجتماعي، وبدء خطوات حقيقية أيضا للتنمية الاقتصادية.. وهي تستحق.. بعد ان كانت هناك مقارنات في هذا البلد لا تجوز.