بقلم - حازم صاغية
ليست «دادا» كلمة دلع للأطفال. إنّها شيء آخر وُلد في «كاباريه فولتير» في زوريخ السويسريّة عام 1916. في الزقاق نفسه، وعلى بُعد أمتار، أقام لينين وخطّط للثورة، وفي مكان أبعد قليلاً كتب جيمس جويس «عوليس».
يومذاك، إبّان الحرب العالميّة الأولى، كان الفنّانون الأوروبيّون يفرّون من الموت في بلدانهم المتحاربة، وبعضهم يلجأ إلى سويسرا الحياديّة. الشعور بالعبث كان متمادياً بين المبدعين والهاربين من الجنديّة الذين حضنتهم زوريخ، ومن هؤلاء تشكّلت جماعة فنّيّة أبرز روّادها هم: من رومانيا الشاعر والرسّام والنحّات تريستان تزارا والفنّان والمعماريّ مارسيل جانكو، ومن ألمانيا الراقصة والمؤدّيّة إيمي هننغز والكاتب والمسرحيّ هوغو بَلّ والشاعر والصحافيّ ريتشارد هوِلزِنبك والفنّان كورت شفيترز، ومن فرنسا النحّات والرسّام والشاعر ألمانيّ الأصل جون أرب.
هؤلاء عارضوا الحرب بقوّة لكنّ تلك المعارضة ذهبت بهم بعيداً: العثور على ممارسات فنّيّة جديدة وبديلة توصل أفكارهم ومشاعرهم. لقد أرادوا خلق كون بديل كامل الاختلاف، حيث ينبغي، حسب تعريف تزارا، إلغاء المنطق وكلّ مراتبيّة اجتماعيّة وكلّ موضوع، بل إلغاء كلّ المواضيع والعواطف والغوامض والأشباح والذاكرة وهندسة العمارة والأنبياء والمستقبل.
فدادا، المشبّعة بمناهضة الحرب، كانت ضدّ كلّ شيء: الدولة والبورجوازيّة والقوميّة والمؤسّسة والمتاحف والماديّة... إنّها «حالة ذهنيّة» وفق تعبير لاحق أطلقه السورياليّ أندريه برِتون. وهي بالفعل شاءت أن تدفن القواعد والمثالات، وتدمّر كلّ ما يُظَنّ أنّه عاقل وعقلانيّ. أمّا الفنّ الذي تتوخّاه فهو، كما وصفه أرب، «يحرّر الناس من جنون الأزمنة و(يقيم) نظاماً جديداً قد ينشئ توازناً بين السماء والجحيم». ويضيف «الاستفزازيّ» هوِلزِنبك، بنبرة نيتشويّة، أنّ الضجيج إنّما يبدو له «أكثر الأشكال حيويّة».
وبين ما استلهمته دادا الفنّ الأفريقيّ؛ إذ الأقنعة، وفق هوغو بَلّ، تطالب لابسيها بممارسة «رقص تراجيديّ – عبثيّ»، كذلك استلهمت فنّ المجانين ورسوم الأطفال تبعاً لحاجة هذا العالم إلى ما هو وحشيّ وبسيط معاً.
لكنّ الباحث عن تعريف مضبوط للفنّ، انطلاقاً من أدبيّات كأدبيّات دادا، مصبوغة بالحدّة الشعوريّة والتعبيريّة، سيعود بعبارات إطلاقيّة كـ«كلّ ما يبصقه الفنّان فنّ» (شفيترز) و«كلّ العالم فنّ» (أرب).
وإذ شكّكت دادا بمعنى كلّ شيء، وأرادت تدمير المعنى نفسه، فإنّها بدأت بنفسها، مختارةً اسماً بلا معنى: دادا. فالكلمة يمكن أن تكون صوتاً يطلقه طفل، وقد تصف حصاناً يتمايل ويتأرجح، ويمكن أن تعني بالرومانيّة «نعم، نعم»، أي إنّها بالتالي كلّ شيء ولا شيء.
أمسيات «كاباريه فولتير» تحوّلت معرضاً لشعر دادا ورقصها ومعارضها، وكلّ ذلك جاء يخالف المألوف والسائد. تزارا مثلاً كتب توجيهات في كيفيّة صنع قصيدة من جريدة تُقَصّ كلماتها وتوضع في كيس، فتتحوّل المادّة المقصوصة إلى قصيدة. وكتب بَلّ قصائد كثيرة من كلمات لا صلة لواحدتها بالأخرى، ولا تعني أكثر من أصوات عديمة المعنى، بينما صنع أرب كولاجاته بإسقاط أوراق مقصوصة من الجوّ ولصقها بالأمكنة التي سقطت فيها.
ولم يعمّر الكاباريه سوى ستّة أشهر، لكنّ الحركة عاشت سنوات بعده. فمع انتهاء الحرب، قصد فنّانو دادا وشعراؤها فرنسا وألمانيا والولايات المتّحدة وبلداناً غربيّة أخرى، وفي 1920 أقاموا أوّل معرض فنّيّ في برلين، حيث استُخدم السقف لعرض بعض القطع، كما عرضوا لعبة من جنديّ برأس خنزير وسمّوه رئيس الملائكة البروسيّ. لكنّهم في برلين أيضاً أسّسوا ما بات يُعرف بـ«الفوتو مونتاج» الذي مثّل نوعاً من الكولاج تُقصّ بموجبه وتُلصَق صور من الجرائد والمجلاّت بما يُنتج عملاً فنّيّاً ذا رسالة سياسيّة. ورسالتهم غالباً ما ركّزت على موضوعين: النِّسويّة وتخريب الطريقة التي يقدّم بها الإعلامُ الخبر.
هذا في أوروبا حيث ظلّت برلين أهمّ عواصم دادا. أمّا في الولايات المتّحدة فبرز الفرنسيّ مارسيل دوشان كأبرز رموزها، وهو سبق أن قدّم في 1917 ما عُدّ واحداً من أفضل الأعمال في تاريخ الفنّ، أي «النافورة» (The fountain)، التي هي مرحاض من بورسلين أبيض يمكن أن نجده في كلّ حمّامات العالم.
وردّاً على السؤال: لماذا يُعد هذا فنّاً؟ كان الجواب بسيطاً: لأنّ الفنّان اختار أن يجعله فنّاً. ذاك أنّ هدف دوشان هو أن يُظهر أنّ الفنّان يملك الطاقة الذهنيّة التي تتيح له اختيار الموضوع بحيث يصبح بعد ذاك فنّاً، وأنّه يستطيع تغيير السياق ومعنى الاستخدام كما يشاء. ولئن كانت الفكرة، لا الموضوع، ما يهمّ، فكلّ شيء بات قابلاً لأن يُعرَض لأنّ كلّ شيء فكرة، وبالتالي فنّ. فما نختاره فنّاً يكون كذلك، أمّا أن يكون جيّداً أو سيّئاً فموضوع آخر.
وكان للتصوّر هذا أن لعب دوراً تغييريّاً ضخماً في تاريخ الفنّ الحديث، خصوصاً بعد الحرب العالميّة الثانية، وبالأخصّ مع الفنّ المفهوميّ (conceptual) والأدائيّ (performance) وما بعد الحداثيّ.
كذلك سمّى دوشان أعماله التي تندرج في الإنتاج الجماهيريّ لمجتمع صناعيّ بـ«جاهزة الصنع» (ready-mades): دولاب، درّاجة، رفّ قنانٍ، فيما تميّز الرسّام والشاعر الفرنسيّ فرانسيس بيكابيا باختياراته الأنيقة لآلات لا هدف منها ولا وظيفة لها. فجماليّات الآلة بديلُه عمّا تقوله الأزمنة الحديثة عن وظيفيّة الآلات وتذليلها مصاعب العيش اليوميّ.
وبالتدريج تحلّلت دادا وسلك كلّ من فنّانيها طريقه الخاصّة، متّجهين نحو حركات جديدة أهمّها السورياليّة التي يعدّها البعض ابنة دادا.
ولئن اختار أحد أبرزهم، هوغو بَلّ، أن يعتنق خليطاً من الكاثوليكيّة واللا أدريّة، ويموت في الريف السويسريّ بوصفه قدّيساً! بقي أنّ الفوضويّ والعدميّ في دادا لم يمنعا تحوّلها حركةً ذات معنى وقصد وتأثير، على عكس الرغبة المعلنة لمعظم روّادها.
لقد علّمت تلك التجربة أنّ مناهضة الحرب قد تبعث على اضطراب مصحوب بالإبداع، وعلى شعور عارم بتغليب الذات على الموضوع. وهذا إنّما يقف نقيضاً لتقليد لا يرى المعنى إلاّ في مناهضة السلم، فيُشهر ذاتيّته واضطرابه لكنْ مصحوبَين بقدرٍ من الإبداع لا يُذكر.