لبنان لماذا الوطن الواحد أصلاً

لبنان: لماذا الوطن الواحد أصلاً؟

المغرب اليوم -

لبنان لماذا الوطن الواحد أصلاً

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

 

كان من «إبداعات» الحرب الأهليّة الروسيّة، التي تلت ثورة أكتوبر 1917، إنشاء «وحدات المنع»(blocking units) ، وهي قوّات شيوعيّة تقف وراء الجنود الذين يقاتلون على الجبهات. أمّا وظيفتها فكانت إطلاق النار على الجنود الذين يفرّون من المعركة. ذاك أنّ أفراد الجيش الذين انهارت معنويّاتهم في الحرب العالميّة الأولى، والتلاشي الاقتصاديّ الذي رافقها، لم يُبدوا الحماسة المطلوبة للقتال في حروب لاحقة، فكان مطلوباً وضعهم أمام خيار محدّد: إمّا أن تقاتلوا أو أن تُقتلوا.

واللبنانيّون اليوم ممّن لا يريدون القتال لبلدهم ولأنفسهم، وهم أكثريّة كبرى، مهدّدون بالقتل المعنويّ، تشهيراً وتخويناً، على أيدي «وحدات منع» لا يرتوي طلبها للقتال بمن رغبوا ومن لم يرغبوا.

ذاك أنّنا ينبغي أن نكون مجتمع محاربين وإلاّ كنّا، في الحدّ الأدنى، جبناء عديمي الشرف والكرامة، وفي الحدّ الأقصى، عملاء وجواسيس. وقبل أيّام تلاحقت أحداث نمّت، مرّةً أخرى، عن هذا الميل الذي لا يتزحزح: فحين انتقد نوّابٌ منتخبون عن العاصمة عراضة مسلّحة رافقت تشييع مقاتل قضى في الجنوب، ينتمي إلى «الجماعة الإسلاميّة» التي استتبعها «حزب الله»، ردّ بعض مشايخ «الجماعة»، وبعضُ مَن يشايعهم من الإعلاميّين، بحملة التشكيك المألوفة التي تجاوزت السياسة إلى الأخلاقيّات بأكثر معانيها تخلّفاً. وبدل الانتباه إلى أنّ سكّان بيروت، الذين ذاقوا من السلاح والمسلّحين في العقود الفائتة الأمرّين، هم الذين نطق النوّاب باسمهم، طالعتنا صحيفة «الأخبار» بعنوان تآمريّ عن «أمر عمليّات أميركيّ – خليجيّ بحملة ضدّ الجماعة الإسلاميّة» التي «تُعيد المقاومة إلى بيروت».

والحال أنَّ ما تُعيده «الجماعة الإسلاميّة» إلى بيروت، في حال صحّت توقّعات الجريدة المذكورة، لا يقلّ عن إخضاع العاصمة مجدّداً للحالة الميليشياويّة، أو تعزيز تحكّم الميليشيا بالجملة بتحكّمها بالمفرّق، ومن ثمّ استكمال السيطرة على قرار الحرب والسلم وطنيّاً بسيطرة كلّ زاروب مسلّح على قرار حربه وسلمه مع الزاروب الآخر.

وكما تُسبَغ على قرار كهذا أوصاف المجد والبطولة، يصاب التحليل بالتواءٍ يكمن لنا وراء كلّ حدث يستجدّ. فإذ يزورنا وفد من الحوثيّين اليمنيّين «لتنسيق عمليّات المقاومة»، يُقذَف في صدورنا عِلمٌ مفاده أنّ الخطر على لبنان كامن في المؤرّخ والأستاذ الجامعيّ مكرم رباح بسبب استعانته بصورة مجازيّة تكشف بؤس أحوالنا الحقيقيّة. ويُستدعى رباح، والحال هذه، إلى التحقيق بوصفه مَن «خرق الإجماع الوطنيّ» حول مقاومة يقتصر الإجماع عليها على من يُجمعون على جماليّات العراضات المسلّحة.

لكنّه، مع هذا، سلوك لا يُستهان به لما يلازمه من إصرار مستمرّ جيلاً بعد جيل على استبدال الحياة الجارية فوق الأرض بالحياة تحتها، حيث أزيز الرصاص ونوم الأطفال مذعورين تحت الأسرّة، فيما يسود التشبّه بنماذج كبلغاريا وألبانيا في السبعينات أو كالحوثيّين اليوم، وهي نماذج نحن متقدّمون ألف سنة ضوئيّة عليها. ويبقى لافتاً ومثيراً أنّ الصفة الوحيدة التي يرونها لائقة ببيروت هي صفة العاصمة المقاوِمة وما تستجرّه مقاومتها من دماء وأشلاء وويل. فإذا صحّ ما يقوله البعض من أنّ بيروت الحريريّة ليست المدينة المثال والنقيض لبيروت المقاوِمة، صحّ ايضاً أنّ أيّة مدينة وأيّة حياة مدينيّة ستكونان مستحيلتين في ظلّ هذه اللاعقلانيّة الجارفة، المتأصّلة والمتمكّنة والعدميّة.

ومن جيل إلى جيل تتغيّر الأفكار وتتحذلق، وقد تحلّ جوديث بتلر محلّ فلاديمير لينين الذي حلّ محلّ جمال عبد الناصر بعدما حلّ الأخير بدوره محلّ عنترة بن شدّاد، إلاّ أنّ صورة السعادة المرتجاة لا تتغيّر: أن نصطحب الفكرة الرائجة معنا إلى الأنفاق والملاجىء فيما تنهار علينا المباني على شكل ركام. وهناك نُنشد «انتصرنا» ونبكي ظلم العالم وكيف منعنا الغرب من أن تكون لدينا مدن.

ونحن، العرب، لدينا تراث عريق في رثاء المدينة، ربّما كان أبرز رموزه ابن الروميّ الذي بكى البصرة يوم أُحرقت. وفي وسعنا دائماً أن نغرف من هذا التقليد ونطمئنّ إلى وجوده بعد أن نقرنه بتجهيل الفاعل مثلما فعلنا بعد تفجير مرفأ بيروت قبل أربعة أعوام. لكنّنا إذ نجهّل الفاعل بهذين الإصرار والتعمّد، نكون نحتفل بالفعل ونعدّه انتصاراً ما دام أنّه أصاب العاصمة في عمودها الفقريّ.

وفي النهاية لا يستطيع أيّ فائض من حسن النوايا أن يطرد الفكرة المرتابة بهذا النهج وبالقيّمين عليه، حيث يغدو التضامن مع قضايا مُحقّة، في الجزائر أو في السويس أو في غزّة، ذرائع لتكسير بلد وتدمير عاصمته. فكما لو أنّ المسألة كراهيةٌ صافية لنموذج طالبَنا العيشُ فيه بما لا نملك، ونحن لا نملك إلاّ العراضة المسلّحة، أو نفور مُستدام من فكرة الدولة التي نشأت على أنقاض إمبراطوريّةٍ تداعت قبل نيّف ومئة عام، ولا يزال الحنين إليها يدغدغ النفوس. فإذا كان الأمر هكذا، فلماذا الوطن الواحد أصلاً؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان لماذا الوطن الواحد أصلاً لبنان لماذا الوطن الواحد أصلاً



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib