باستعادة اللبنانيّين المحزنة لتفجير مرفأ بيروت، تعود بقوّة إلى الواجهة مسألة العدالة لضحايا الجريمة. والعدالة لا بدّ أن تأتي مصحوبة بطلب الحقيقة: لماذا حصل ما حصل؟ من الذين نفّذوا؟ من الذين أمروا بالتنفيذ؟
لكنّ العدالة تعود بوصفها عنصراً مستحيلاً لا يتحقّق. كفّ يد القاضي طارق بيطار، بعد استبعاد القاضي فادي صوّان، كان مجرّد تلخيص للحال هذه، فضلاً عن كونه إنذاراً مبكراً بها.
العدالة إيّاها هي ما لا يتحقّق في قضيّة اغتيال الكاتب والناشط لقمان سليم، أو في قضيّة اغتيال مصوّر الجيش جوزيف بجّاني.
العدالة أيضاً مسألة عالقة أو معلّقة في جريمة نهب المصارف لمودعيها وما سبقها ورافقها من انهيار ماليّ واقتصاديّ.
وقبل هذه الجرائم أمكن بشقّ النفس إجراء تحقيق دوليّ في جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاق موكبه. أمّا النتيجة المتواضعة التي أسفرت عنها التحقيقات فلم يُستجَب لها. وبدورهم فضحايا الجرائم التالية التي سجّلها العامان 2005 و2006 لم يجر بشأنهم أيّ تحقيق محلّيّاً كان أم دوليّاً. لقد ماتوا وانتهى الأمر. إنّها حال الدنيا!
هذه كلّها تبقى جرائم بلا مجرمين. أمين عام «حزب الله» وصف كارثة المرفأ بـ «الحادث الأليم». وزير الأشغال علي حميّة نشر صورة لمرفأ معافى ومزدهر كأنّه يقول إنّ شيئاً لم يحصل.
تلك معلومات بات يعرفها اللبنانيّون جميعاً، فلا تفاجىء أحداً وإن أغضبت، ولا زالت تُغضب، الكثيرين منهم. لكنّ المسألة التي لا تحظى بما تستحقّ من أهميّة هي مقارنة هذه الصورة عن لبنان كبلد طارد للعدالة، بصورة أخرى له كبلد مقاوم، وبالتالي اشتقاق بعض المعنى من هذه المقارنة.
والحال أنّ التعايش بين الصورتين، والذي انقضى عليه زمن لم يعد قصيراً، يرقى إلى تعايش طبيعيّ جدّاً. إنّه، أكثر من هذا، أوجُهٌ مختلفة لحقيقة واحدة. فالذين يلحّون في طلب العدالة، محلّيّة كانت أم دوليّة، وينتفضون ضدّ نظام كابت لها، هم عملاء وخونة في نظر أتباع المقاومة. أمّا الأخيرون الذين يريدون المضيّ في تسريح العدالة وإبقاء الأمور على حالها، كي لا يتأثّر وضع المقاومة، فهم ضالعون في كلّ ما يعزّز الجريمة.
واقع الأمر أنّ ضمور العدالة ومَحاكمها وانتفاخ المقاومة وصواريخها هما العنصران البارزان والفائضان في الحياة اللبنانيّة الراهنة، وكلٌّ من هذين العنصرين شرط للآخر: مقاومة أكثر تعني عدالة أقلّ، وعدالة أقلّ تعني مقاومة أكثر.
وهذا ما يستند إلى فلسفة ثوريّة إذا صحّ التعبير. ذاك أنّ التجارب الانقلابيّة والعقائديّة، على اختلافها، تتّفق على إبدال المحاكم بـ «محاكم ثوريّة» و»محاكم شعبيّة»، هذا حين لا تلغي المحاكم من أصلها. أمّا السبب الأبعد للسلوك هذا فأنّ أصحاب التراكيب العقائديّة يعرفون سلفاً مَن هو الجاني ومَن هو المجنيّ عليه. والمعرفة هذه لا تنجم عن أفعال، بل يقرّرها الموقع الفكريّ والسياسيّ للجاني والمجنيّ عليه، أو البيئة التي خرجا منها أو المصدر الاجتماعيّ الذي تفرّعا عنه. وبالمعنى هذا، فإنّ المحاكم (الرجعيّة أو البورجوازيّة أو الكافرة...) قد تكشف حقيقة ما إلاّ أنّها تحجب حقّاً أعمق من الحقيقة. فكيف حين يكون صاحب تلك النظريّة هو نفسه صاحب السلاح الذي يطبّقها، أو السلطة التي تأمر بها؟
هكذا سيكون من المضحك أن نتحدّث عن محامٍ سوفياتيّ لامع، أو عن قاضٍ مميّز في ألمانيا النازيّة أو في إيران الخمينيّة. هذه أمور لا تحصل هناك حيث «الحقّ» (وهو خلافيّ بطبيعة الحال) يعلو على حقيقة القتل الملموسة والمعروفة.
ولم ينج بعض البلدان العربيّة التي استولت عليها الجيوش والعقائد من صيغ كاريكاتوريّة عن «المحاكم الثوريّة»، فكانت محكمة فاضل المهداوي الشهيرة في عراق الخمسينات، ومحكمة صلاح الضللي في سوريّا الستينات، بينما تولّت «الجماهير» شخصيّاً محاكمة المتّهمين في ليبيا القذّافي.
وبالعودة إلى لبنان، يتبدّى أكثر من أيّ يوم مضى أنّ الخيار هو، في آخر المطاف، بين المقاومة والعدالة: إمّا المقاومة حيث لا عدالة، كما هو حاصل اليوم، ومُعرّضٌ للحصول أكثر فأكثر، وإمّا العدالة حيث لا مقاومة، كما هو غير مرشّح للحصول في أيّ غد منظور.
ولأنّ توازن القوى بين المعادلتين هو على هذا النحو المُختلّ، جاز القول إنّ الباحثين عن العدالة هم اليوم بلا وطن، وأنّ الوطن كما انتهت به الحال لم يعد يستحقّ تسميته هذه.
إنّ أوطان المقاومات الطاردة للعدالة غابات أكثر منها أوطاناً. واليوم يتزايد عدد اللبنانيّين الذين يقولون إنّهم لا يريدون العيش في غابة، أي لا يريدون وطناً فيه مقاومة وليس فيه عدالة. هذا مفاد الكلمات الجريحة التي ألقيت يوم الجمعة الماضي، حين احتشد آلاف المواطنين الذين أحيوا الذكرى الثالثة لجريمة تفجير المرفأ.