بقلم - حازم صاغية
مؤخّراً انسحبت مؤسّسة «هاينريش بُل» الألمانيّة التي تموّل «جائزة هنه أرنت للفكر السياسيّ» من تمويلها للجائزة، بسبب منحها للكاتبة الروسيّة الأميركيّة، واليهوديّة الديانة، ماشا غيسين، بسبب مقالة للأخيرة نشرتها «نيويوركر» بعنوان «في ظلّ الهولوكوست». في تلك المقالة دانت غيسين، سليلة العائلة التي نجت من المحرقة، الحرب على غزّة وشبّهت القطاع بغيتو وارسو في الحرب العالميّة الثانية.
غيسين علّقت بسخرية مشوبة بالمرارة، فرأت أنّ أرنت نفسها ما كانت اليوم لتنال جائزة أرنت في ألمانيا. على أنّ الجائزة ما لبثت أن سُلّمت لها في احتفال ضيّق وفي تغطية إعلاميّة محدودة.
تذكير هذه الحادثة البشعة بأرنت يحمل على تذكير آخر مداره موقف عالمة السياسة الألمانيّة الأميركيّة الراحلة من الانتماء والتعصّب ممّا نجده، في هذه الأيّام، كيفما التفتنا. فالمثقّفون، أكثر من غير المثقّفين، يقفون على الجبهات كلّها وراء الجنود والمقاتلين، يدافعون عن أفعالهم ويبرّرونها أكثر ممّا يفعل الذين هم في الميدان أنفسهم.
والحال أنّ معظم ما كتبته أرنت يمكن اعتباره اعتراضاً على التعصّب في الانتماء، لكنْ يبقى أنّ الرسائل التي تبادلتها مع غيرشوم شولِم، المؤرّخ والفيلسوف واللاهوتيّ الصوفيّ الألمانيّ الإسرائيليّ، ربّما بقيت الأشدّ تعبيراً وتكثيفاً في وقت واحد.
المراسلات بينهما دارت أساساً حول مسؤوليّة المثقّفين اليهود ممّن كتبوا عن الهولوكوست، لكنّها تناولت مسائل أخرى لا تقلّ أهميّة، في عدادها انتماء المثقّف لشعبه أو جماعته أو أهله.
تلك المراسلات التي جمعتها ماري لويس نوتّ وأعدّتها في كتاب، بدأت في 1939 ودامت 25 عاماً لتنتهي مُتوّجةً بعداء مُرّ بينهما، في 1963، بعد كتابتها عن أيخمان و«عاديّة الشرّ». والاثنان، وإن لم يكونا مقرّبين، فإنّ شيئاً من الصداقة جمع بينهما، تبعاً لصداقة الاثنين للفيلسوف والناقد ولتر بنجامين، ولموقفهما المشترك من الفيلسوفين ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر اللذين احتفظا بأروراق بنجامين بعد انتحاره.
في تلك الرسائل التي بلغت 141 رسالة، تحضر مسائل أساسيّة في ما خصّ السياسة والفكر والأخلاق، ولكنْ أيضاً محطّات أساسيّة في تاريخ الحركة الصهيونيّة والنظر إليها. وفي هذه الخانة يندرج التعليق على مقالة كتبتها أرنت في 1946 بعنوان «إعادة تقييم الصهيونيّة»، إذ رأت أنّ مقرّرات المؤتمر الصهيونيّ الذي عُقد في أتلانتك سيتي بالولايات المتّحدة عام 1944 تنطوي على تحوّل لافت. ذاك أنّها انتقلت من هدف الإتيان بأفراد يهود إلى فلسطين (دون أية إشارة الى دولة يهوديّة) إلى المطالبة بـ«كومنولث يهوديّ حرّ وديمقراطيّ يشمل كلّ فلسطين غير المقسّمة». وهو ما اعتبرته انعطافاً في تاريخ الصهيونيّة، التي انتسبت إليها في شبابها، وانتصاراً لبرنامج المراجعين الجابوتنسكيّين، آخذةً عليهم أيضاً تجاهلهم للعرب. فما دامت الصهيونيّة قد غدت جابوتنسكيّة فهذا ما يدفع إلى إعادة النظر فيها. واعتُبر الموقف هذا معارضة منها لتحويل الفكرة الصهيونيّة إلى قوميّة إثنيّة-سياسيّة، ما يقرّبها من فكرة الصهيونيّة الثقافيّة التي أسّسها أحاد هاعام وركّزت على ضرورة تأسيس مركز ثقافيّ دينيّ لليهود في فلسطين يقيهم الذوبان والاندماج في مجتمعات إقامتهم. وإذ اعترضت على تجاهل الفلسطينيّين، اعتبر شولم أنّ نقدها مناهض للصهيونيّة و«شيوعيّ» ومشوب بنزعة دياسبورية، متحدّثاً من موقع قوميّ ورادّاً الكثير من الانتقادات الموجّهة إلى الصهيونيّة الى «اللاساميّة الأبديّة». وهو لئن أعلن أنّه نصير لقضيّة اليهود وأنّ العرب لم يقبلوا أيّ حلّ يتضمّن هجرة يهوديّة، استنتج، هو الذي دعا إلى دولة ثنائيّة القوميّة في فلسطين، أنّ النزاع مع العرب سيغدو أسهل على الحلّ بعد قيام التقسيم.
وتردّ أرنت فتأخذ عليه أنه هو الذي قضى حياته في الفلسفة واللاهوت يمكن أن يكون مؤمناً بشيء مُعتقديّ (ism)، مسجّلةً أنّ كلّ العقائد تتشارك في التعصّب وحجب الواقع، ومستغربةً كونه صهيونيّاً ومبدية ألمها لذلك.
وبدورها تناولت المراسلات تطوّرات مهمّة أخرى لا تتّسع لها هذه العجالة، كاتّفاقيّة الترانسفير الشهيرة لعام 1933 بين منظّمات صهيونيّة والسلطة النازيّة. إلاّ أنّ النقاش بلغ نقطة احتدامه مع «عاديّة الشرّ»، حيث اعتبرها شولم أحاديّة النظر ومتحيّزة، إن لم يكن ضدّ اليهود فضدّ أن يصبحوا أقوياء، آخذاً عليها، كما على كثيرين جاؤوا من «اليسار الألمانيّ»، عدم وجود أيّ أثر لحبّ اليهود لديهم، علماً بأن تصفية «ثلث شعبنا» يستحقّ عواطف كهذه. وتردّ نافية أنّها جاءت من «اليسار الألمانيّ»، وإذ تؤكّد على يهوديّتها ترى أنّ ما نرثه ولا نصنعه إنّما هو «ما قبل سياسي»، مهاجمةً رغبته في تحجيمها وحدّها بنطاق يهوديّتها. بعد ذاك تقول عبارتها النبيلة التي شاعت لاحقاً، من أنّها في حياتها كلّها لم تحبّ أمّة أو جماعة، لكنّها تحبّ أصدقاءها فحسب، وأنّها عاجزة عن أيّ حبّ آخر. فيهوديّتها لا تجعلها تحبّ اليهود لأنّ حبّاً كهذا سيكون تعبيراً عن حبّ الذات. وهي تذكّره بمحاورة لها مع غولدا مائير لتستنتج أنّها لا تحبّ اليهود ولا تؤمن بهم، بل تنتمي إليهم فحسب. وإذ تتناول مسألة الوطنيّة ترى أنّها مستحيلة دون معارضة ونقد دائمين، و«تعترف» لشولم بأنّ الظلم الذي يصدر عن شعبها يثيرها أكثر من الظلم الذي يصدر عن آخرين.
والحال أنّ شولم لم يكن عديم النقد للصهيونيّة ولإسرائيل، ولا قليل الشعور بالتمزّق حيال المسائل التي يُطرح عليه الموقف منها، لكنّه ظلّ أقرب إلى ما سمّاه الفيلسوف الأميركيّ مايكل ولزر «ناقداً موصولاً» (connected critic). أمّا أرنت فبدت حاسمة في قطعها وانحيازها إلى موقف ضميريّ نبيل ونادر في أزمنة الاستقطاب.
... فعلاً سيكون صعباً جدّاً، في أزمنة كهذه، أن تنال أرنت جائزة أرنت.