بقلم - حازم صاغية
لنفترض أنّ أحداً وصف نظاماً كالإيرانيّ بالمكارثيّة، فهل يكون الوصف مديحاً أم هجاء؟
سيكون مديحاً بالتأكيد، بل إشارةً إلى أنّ النظام المذكور يتطوّر نحو الأحسن. لماذا؟ لأنّ المكارثيّة هي أبسط ممارساته العاديّة، وأقلّ بلا قياس ممّا يرتكبه.
لكنْ كثيراً ما نقع على جمع المكارثيّة والغولاغ في عبارة واحدة كما لو كانتا متماثلتين، والجمع هذا في غير محلّه حكماً.
لقد عبّرت المكارثيّة عن بلوغ الهوس بالشيوعيّة، إبّان الحرب الباردة، سويّة مطلقة. ففيما كان ستالين يصلّب معسكره، انتصرت الشيوعيّة الصينيّة عام 1949، ثمّ اندلعت الحرب الكوريّة موفّرةً حجّةً لمُعادي الشيوعيّة. مذّاك بدأ مدير «إف بي آي» إدغار هوفر استخدام وكالته ومواردها لاصطياد الشيوعيّين المفترضين وإبعادهم عن أيّ موقع أو مهنة مؤثّرين.
وفي الخمسينات رأت أميركا نفسها أمّةً مسيحيّة في حرب مع طرف ملحد، وفي مطالع 1953 بات دوايت أيزنهاور أوّل رئيس يُعمَّد إبّان تولّيه المنصب، وبعد عام أضيف تعبير «تحت الله (under god)» إلى قسَم الولاء لمن يتولّى منصباً، فغذّى التوكيد الدينيّ هذا خُواف الشيوعيّة.
وعبّرت عن هذا المناخ قضيّة جوليوس روزنبرغ، العامل في «مشروع مانهاتن النوويّ»، وزوجته إيثيل، العالِمين الشيوعيّين المتّهمين بالتجسّس لموسكو وبتزويدها بمعلومات سهّلت إطلاق تجربتها النوويّة الأولى صيف 1949. وفي 1950 اعتُقل الزوجان ثمّ حوكما وأُعدما في 1953.
كذلك كان الحزب الشيوعيّ الأميركيّ، رغم صغره، ناشطاً وديناميّاً، خصوصاً في النقابات. أمّا سجلّه فبدا مختلطاً: فقد لعب أدواراً مهمّة في نضالات تقدّميّة لصالح العمّال والحقوق المدنيّة، كما ذهب بعيداً في ولائه للاتّحاد السوفياتيّ، ما عرّضه لإدانات سائر الأطياف السياسيّة. ولئن سبق لشيوعيّين أميركيّين أن تجسّسوا للروس، إبّان الحرب العالميّة الثانية، وتحت ستار التحالف معهم، فمع الحرب الباردة وافتضاح عمليّات التجسّس توسّعت رقعة من يرون في الشيوعيّة المحلّيّة تهديداً للأمن القوميّ.
لكنْ أيضاً بدا غلاة الحزب الجمهوريّ، وفيهم سيناتور ويسكونسِن جوزيف مكارثي، مهمومين باغتنام الفرصة للانقضاض على منافسيهم الديمقراطيّين. ذاك أنّ الجمهوريّين خسروا، بين 1932 و1948، خمسة انتخابات رئاسيّة آخِرها انتصار ترومان على ديوي.
هكذا استخدم الانتهازيّون منهم، كريتشارد نيكسون ومكارثي، تلك التحقيقات سلاحاً حزبيّاً، متّهمين الديمقراطيّين بالتراخي حيال الشيوعيّة وقاضمين، باسم حماية المواطنين منها، حرّيّات المواطنين الديمقراطيّة. وما لبثت مكافحة «الخطر الشيوعيّ» أن تحوّلت إلى مشروع قمع سياسيّ وثقافيّ جبّار: شبكة بيروقراطيّين وسياسيّين وصحافيّين ورجال أعمال تشنّ حملة مثقلة بالمبالغات، وتحرّشٌ بكلّ من يحمل آراء يُشتمّ منها بعض اليساريّة، أو حتّى مجرد علاقة شخصيّة أو اجتماعيّة بيساريّين. أمّا تعريف الشيوعيّة فغدا مطّاطاً يشمل من يعلّق في بيته لوحة فنّ حديث، أو يحمل رأياً مخالفاً في العلاقات الجنسيّة، أو ينتقد التسلّح النوويّ، أو يعيش في دائرة اجتماعيّة متعدّدة الإثنيّات.
وسريعاً ما تمدّدت معايير هوفر فتجاوزت موظّفي الدولة إلى بقية المجتمع، وبدأت هوليوود والمصانع والجامعات تطبّقها على العاملين لديها. وفي هذه الغضون استدعى الكونغرس مئات الأشخاص كي يشهدوا أمام «هيئة النشاطات غير الأميركيّة»، فإذا رفضوا التعاون سُجنوا لتحقيرهم القانون، أو سُرّحوا من أعمالهم وأُدرجوا على قوائم سوداء.
وعلى هذا النحو دُمّرت حياة ألفي شخص ومِهنهم، فيما أُقحمت الوشاية في الثقافة والتداول العامّين، كما ضاقت رقعة السياسة وتردّى عمل المؤسّسات.
أمّا مكارثي فكان قد انتُخب، في 1946، عضواً في مجلس الشيوخ، فارتبط اسمه، بين ما ارتبط، باتّهام سياسات الرئيسين الديمقراطيّين روزفلت وترومان بالمسؤوليّة عن «انتشار الشيوعيّة الكونيّة». لكنّه عُرف بأمور أخرى؛ منها أنّه «أسوأ سيناتور»، حسب استقصاء أجرته صحف واشنطن حينذاك. وفي 1950 زعمَ، في خطاب له، أنّ «250 عضواً في الحزب الشيوعيّ... ما زالوا يعملون في وزارة الخارجيّة الأميركيّة ويضعون سياستها». ولئن حيّر رقم 250 البعض، فقد تسبّب الخطاب بصعوده وبسكّ تعبير «المكارثيّة». هكذا اشتُهر «المقاتل لأجل أميركا» من دون أيّة رؤية أو برنامج سياسيّين، بلوائحه دائمة التغيّر لشيوعيّين مزعومين، وبتوزيعه اتّهامات حادّة لم ينج منها الجنرال مارشال، ووزير الخارجيّة دين أتشيسون.
وفي تلك اللحظة من الانحطاط الديمقراطيّ -وهو ما سنراه مع دونالد ترمب بعد سبعين عاماً- صمت كثيرون عن أفعال مكارثي؛ خوفاً من الموجة الشعبويّة العارمة، حتّى إنّ المحكمة العليا نفسها غطّت على انتهاكات جدّيّة للحقوق الدستوريّة باسم الأمن القوميّ.
لكنْ حين أصبح مكارثي، عام 1953، رئيساً للّجنة الفرعيّة الدائمة للتحقيقات، وسّع بيكار عدوانيّته. ففي مطالع 1954 وصل به الأمر إلى ادّعاء أنّ الشيوعيّين يخترقون الجيش الأميركيّ، وأنّ كبار ضبّاطه متواطئون. واستدعت تلك الاتّهامات المدوّية تحقيقات استمرّت أكثر من شهر، استُمع فيها إلى شهادات علنيّة في مجلس الشيوخ، كما نقلها التلفزيون إلى عموم الأميركيّين. وإذ ظهر محامٍ عن الجيش يُدعى جوزيف وِلش، وطالب بكشف تلك اللائحة السرّيّة عن المتعاونين المزعومين، حاول مكارثي اتّهام محامٍ شابّ، هو فرِد فيشر، يعمل في مكتب ولش، بالشيوعيّة. وباحتدام السجال بين ولش ومكارثي، ارتدّت حملة الأخير عليه، فهاجمه كثيرون من أعضاء حزبه، بمن فيهم حليفه السابق نيكسون وقد أصبح نائباً للرئيس. لقد تبدّى أنّ حسّ مكارثي الميلودراميّ لم يعد كافياً لإنقاذه. فالجيش هو الذي حقّق انتصار الحرب العالميّة، ورئيسُ الجمهوريّة أيزنهاور إنّما وصل إلى البيت الأبيض من قيادته للجيش.
هنا انقلب الرأي العامّ على مكارثي، تضامناً منه مع القوّات المسلّحة، ولكنْ أيضاً تأثّراً بالدور الذي أدّاه التلفزيون؛ تلك الأداة الصاعدة يومذاك، في نقل الحقائق المباشرة للملايين. وبعد أشهر انتهى عهده الإرهابيّ بأنْ عزله مجلس الشيوخ ولُطّخت سمعته، فاحتمى بالإفراط في الكحول الذي قتله في 1957 عن 48 عاماً. وبموت مكارثي ماتت المكارثيّة التي يبقى منها أنّها كانت وصمة على جبين أميركا وديمقراطيّتها. لكنّ المكارثيّة لم تصبح وصمة إلّا لأنّها حدثت في أميركا وفي نظام ديمقراطيّ.
الغولاغ شيء مختلف تماماً...