في أحوالنا السوداء وآفاقنا المسدودة

... في أحوالنا السوداء وآفاقنا المسدودة!

المغرب اليوم -

 في أحوالنا السوداء وآفاقنا المسدودة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

ربّما تجسّدت المفارقة الكبرى لحرب غزّة في اكتشاف مزدوج ومتناقض: من جهة، أنّ المشكلة الفلسطينيّة لا تُحلّ إلاّ سياسيّاً، ومن خلال إقامة دولة للشعب الفلسطينيّ، ومن جهة أخرى، أنّ مثل هذا الحلّ إنّما بات مستحيلاً من المستحيلات.

واقع الحال أنّ النصف الأوّل من «الاكتشاف» ليس اكتشافاً. فالفلسطينيّون والإسرائيليّون سبق أن توصّلوا إلى ذلك في 1993، حين وقّعوا اتّفاق أوسلو الشهير، متجاوزين الآلام التي لطالما تبادلوها.

واتّفاق أوسلو لم يكن اتّفاقاً نموذجيّاً، وقد شابتْه عيوب كثيرة، كما أُجّل البتّ في مسائله الأهمّ إلى مراحل لاحقة. لكنّه كان أفضل بلا قياس ممّا كان يمكن أن يقدّمه للفلسطينيّين توازن القوى القائم حينذاك. وإلى هذا، كان أوسلو أفضل بلا قياس من أحوالنا الراهنة – أحوال ما بعد إسقاطه وصولاً إلى حرب غزّة الرهيبة.

لقد نجحت ضربات اليمين الإسرائيليّ، القوميّ منه والدينيّ، مصحوبة بضربات «حماس» ومن ورائها النظامان الإيرانيّ والسوريّ، في إسقاط أوسلو بذريعة نواقصها. وليس عديم الدلالة أنّ أولئك الذين أسقطوه، باغتيالهم اسحق رابين كما بالعبوات وقتل المدنيّين، هم إيّاهم من يخوضون الحرب الحاليّة ويدفعونها إلى الانسداد المُحكَم.

هكذا، وعلى عكس قدرة الحروب على فتح كوّة للسياسة، فإنّ حروباً إباديّة كالتي شنّتها إسرائيل وتشنّها على قطاع غزّة، وعمليّاتٍ فظيعة فظاعة «طوفان الأقصى»، تتمرّد على احتمال متفائل كهذا.

فهل يمكن اليوم أن نتصوّر الإسرائيليّ (ممثّلاً ببنيامين نتانانياهو) والفلسطينيّ (ممثّلاً بـ«حركة حماس») جالسين معاً على الطاولة للتفاوض حول حلّ سياسيّ؟ وهل يمكن لأيّ من الطرفين أن يجد في شعبه عاطفة قويّة وداعمة لتوجّه كهذا فيما العبارات الأشدّ تداولاً هي من صنفٍ لا يقلّ عن تبادل النيران: «إمّا نحن أو هم»، و«هم لا يفهمون إلاّ لغة القوّة».

وهذا إن لم نُضف إلى اللوحة الداكنة التي نحن في صددها احتمال توسّع رقعة القتال، إمّا عبر تدخّل غربيّ من البحر أو عبر تدخّل إيرانيّ من البرّ.

لكنّ أحوال العالم الأوسع إنّما تضاعف توقّعَ العنف المفتوح والمصحوب، هذه المرّة، بآفاق مسدودة ومَديات زمنيّة يصعب حصرها. فتعاظم الإسلاموفوبيا واللاساميّة في البلدان الغربيّة، وجرائم كقتل طفل مسلم في الولايات المتّحدة، وأستاذ في فرنسا، وكذلك الحديث المتنامي عن «صراع الحضارات» و«حروب القبائل»، تتزامن مع واقع جديد ونافر: إنّ الحكومات الغربيّة لا تتعامل مع الحرب الإسرائيليّة الراهنة بوصفها «سياسة خارجيّة» بل بوصفها «أمناً قوميّاً». وهذا ما بات يتعدّى الوقوف السياسيّ والعسكريّ في جانب الدولة العبريّة إلى انحيازات فجّة في مجالات الإعلام والثقافة والرياضة وسواها من الميادين. ولربّما شهدنا، إذا ما استمرّت هذه الوجهة، تجاوزات على حقوق الإنسان وعلى مبدأ التعدّديّة الثقافيّة والإثنيّة سواء بسواء. وقد يطوّر «يمينيّون» غربيّون، بل أيضاً بعض مَن هم غير يمينيّين بالضرورة، أفكاراً تزعم ضبط الجموح التعدّديّ بحيث يتجانس مع موجبات «المصلحة الوطنيّة».

وبدورها جاءت التظاهرات الضخمة المؤيّدة لغزّة في العواصم الغربيّة، دليلاً على مدى التداخل الراهن بين الحياة السياسيّة والهويّات الأصليّة للسكّان. وهذا، في ظلّ الهجرات المليونيّة والمخاوف التي تثيرها عند البعض، قد يوفّر دعماً متأخّراً لتلك النظريّة الرجعيّة القديمة في تغليبها الأصل على الخيار الحرّ، وربّما أولويّةَ الدم على القانون الجامع. وإذا تمادت نزاعات وصدامات، هنا وهناك في أوروبا، بين مسلمين ويهود، وتزايدت أفعال إسلاموفوبيّة ولاساميّة، بتنا أمام اندفاعة خطيرة في أعمال الثأر والانتقام، كما في انتكاس الوعي الدينيّ والهويّاتيّ إلى أشكال أشدّ تحجّراً وجموداً. وشيء كهذا يؤجّج بالضرورة حروب الرموز صليباً وحجاباً وقلنسوةً ولحماً مذبوحاً بالحلال أو بالحرام...

وفي هذا كلّه، وفي المزيد من عولمة النزاعات الصغرى المؤهّلة أن تكبر، يُكتب فصل آخر من فصول الانتكاسة التي تصيب مشروع الحداثة والتنوير بعد تفاؤل التسعينات الذي تكشّفت سذاجته وتسرّعه في وقت لاحق. ولئن كانت علاقة العرب والمسلمين بالغرب، وتالياً بالديمقراطيّة والعلمانيّة، علاقة مهتزّة دائماً، فلنا أن نتخيّل إلى أيّ درك سوف تهبط اليوم.

فقد تدوّي مجدّداً، وعلى نطاق عالميّ أوسع وأكبر، الأصوات المسمومة التي أتحفتنا بها حناجر الأطراف كافّة بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ثمّ مع حربي أفغانستان والعراق التاليتين. وليسوا قلّة من بدأوا مؤخّراً يذكّروننا بالحروب الصليبيّة وبأنّ ميّتها لم يمت ولن يموت.

فالحداثة أضعف من الهويّة، على ما يتبيّن مجدّداً، وأكثر هشاشة. وإذا كانت الأولى تتقدّم على شكل رواية فالأخيرة تتقدّم على شكل ملحمة، وفي الملاحم تُستأنف أرواح الأجداد في الأحفاد، ماضيةً في حضّهم، جيلاً بعد جيل، على الثأر وفي دفعهم إلى الموت. ومنطقتنا رهيبة وملعونة تملك من السمّ ما يستطيع تسميم الكون كلّه، أو إضافة جرعات نوعيّة إلى السمّ المقيم فيه. أمّا الكلام السياسيّ عن تسوية تُنصف الفلسطينيّين، بعد «طوفان الأقصى»، فسوف يغدو أشبه بطوفان الأوهام والنوايا الحسنة والمُضجرة في وقت واحد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 في أحوالنا السوداء وآفاقنا المسدودة  في أحوالنا السوداء وآفاقنا المسدودة



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib