عن المقاومة واللغة في كلام المقاومين اللبنانيّين

عن المقاومة واللغة في كلام المقاومين اللبنانيّين

المغرب اليوم -

عن المقاومة واللغة في كلام المقاومين اللبنانيّين

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

حين يتحدّث واحد من قياديّي «حزب الله» اللبنانيّ عن المواصفات المطلوبة كي يكون رئيس الجمهوريّة مقبولاً، فإنّه يُورد عبارات وتعابير من نوع: «لا يخشى الضغوط الأميركيّة»، «تخشاه إسرائيل»، «يتحدّى...»، «يتصدّى...»، «يواجه...».

والحال أنّ اللغة تلك لا تذكّر بالسياسيّ الجيّد بقدر ما تذكّر بالملاكم الجيّد أو بالمصارع الجيّد. فنادراً جدّاً ما يذكر مسؤولو «الحزب» شيئاً عن موقف الرئيس المنشود من الاقتصاد الوطنيّ أو من التعليم، أو عن آرائه الاجتماعيّة ورؤيته إلى العالم، أو عن فساده أو نزاهته، أو عن مدى استعداده للتقيّد بالدستور...، وهي الأمور التي يُسأل عنها السياسيّ ويُحاسَب تبعاً لها.

وهذا ليس مردّه إلى أنّ «حزب الله» بوصفه «مقاومة» لا يستطيع أن يرى العالم إلاّ من هذه الزاوية. يكفي التذكير بأنّ المقاومة الفرنسيّة مثلاً ضمّت بعض أبرز مثقّفي فرنسا الديغوليّين منهم والشيوعيّين على السواء، وأنّها فيما كانت تقاوم الاحتلال النازيّ كانت ترعى مساهمات في الأفكار والإبداع احتلّت مواقع طليعيّة في نتاجات القرن العشرين، لا الفرنسيّ فحسب بل العالميّ أيضاً.

فـ «المقاومة» بالتالي ليست عذراً لأصحابها، وهي من حيث المبدأ لا تفسّر انحصارهم هذا في النظرة القتاليّة إلى العالم المحيط، خصوصاً أنّ النظرة المذكورة لا تقتصر على مواصفات رئيس الجمهوريّة. واقع الحال أنّ كلّ ما تقع عليه عين المقاومة أو يدها هو قتالٌ بقتال. فإذا كان العيش في جوار الموت والخطر مصدراً للتأمّل في الحياة وأحوالها فنحن لن نعثر بتاتاً على شيء من ذلك التأمّل. وإذا كان إفناء الذات في قضيّةٍ ما مصدراً لتوتّر يسائل العلاقة بالحبّ، أو بالجسد والرغبات، ففي حالتنا سيكون هذا كلّه أقرب إلى أمنية محبَطة. هكذا نجدنا بعد نيّف وأربعين سنة على تأسيس المقاومة من دون رواية واحدة ظهرت في نطاقها، ومن دون أيّ عمل إبداعيّ، أدبيّ أو فنّيّ، كائناً ما كان جنسه.

لكنْ إذا كانت متابعة قناة «المنار» التلفزيونيّة التابعة للحزب دليلاً قاطعاً على فقر ساطع كهذا، فإنّ أدبيّات أجهزة الإعلام التي تؤيّد المقاومة تشارك «المنار» نظرتها القتاليّة الضيّقة إلى العالم. والميل هذا إنّما يبلغ ذروة التجلّي في الحديث عن «العدوّ»، أميركيّاً كان أم إسرائيليّاً، وفي الأوصاف التي يوصف بها. فالأخير غالباً ما يصاب بـ «الهلع» و»تصطكّ أسنانه» و»ترتعد فرائصه» و»تنكشف نقاط ضعفه»، فيما الذين يواجهونه «يستشهدون» لكنّهم «يُذلّونه» و»يلقّنونه درساً» و»ينذرونه بالعواقب الوخيمة» و»يهدّدونه فارضين عليه التراجع»، كما «يُفشلون عدوانه» و»تُقلقهم ضرباته»...

هذه اللغة الحربيّة، الأحاديّة في حربيّتها، والغنيّة بالاستبطان النفسيّ والعياديّ، كما باللوحات الملحميّة، لم يقتصر فقرها على الأدب والفنّ، فهي أيضاً لم تُنتج مُنظّراً حربيّاً واحداً: فنحن، في ما نعلم، ليس لدينا صن تزو، الصينيّ الذي عاش قبل 2500 سنة، ولا الجنرال البروسيّ فون كلاوزفيتز ولا الفيتناميّ نغوين جياب... وما يوحي به الافتقار «المهنيّ» هذا هو افتراض أصحابه أنّ القوّة، تماماً كما في حالة المُصارع، حالة طبيعيّة معطاة سلفاً، وأنّها بالتالي مكتفية بذاتها لا تحتاج إلى كثير من الصقل والتفكير.

والراهن أنّ ما هو متوافر أقرب إلى خليط ممّا نسمّيه «لغة المراجل»، أي ما يُشتهَر بقوله القبضايات أو الفُتوّات، وما ترسّب من كلام الأنظمة الأمنيّة والعسكريّة في المشرق العربيّ. فعلى طريقة القبضاي يقول المقاوم إنّ في وسعه أن يفعل بخصمه كذا وكذا لأنّ هذا الخصم «أوهنُ من بيت العنكبوت»، بحسب وصف شهير استخدمه ذات مرّة الأمين العامّ لـ «حزب الله». ونعرف أنّ قبضايات القرى طوّروا، في زمن سابق، طقوساً وإشارات تدلّ إلى قوّتهم الخام (كرفع الجرن) أو إلى تمسّكهم بأقوالهم (كمسك الشاربين).

أمّا لغة الأنظمة، لا سيّما البعثيّة، فكانت تقدّم بلدانها بوصفها وظائف لا بوصفها شعوباً. فتلك البلدان تعيش حالة دائمة تزخر بأفعال الصمود والتصدّي والمواجهة وإحباط المشاريع والأجندات، لكنّها نادراً جدّاً ما تدلي بشيء مفيد عن اقتصادها أو تعليمها أو صحّة أبنائها، وحين تفتح فمها في هذا تكون حكماً تكذب.

ثمّ إنّ «لغة المراجل» ليست مُعدّة لمخاطبة رأي عامّ يراد كسبه، بل هي تفضي، على العكس تماماً، إلى تنفيره. ذاك أنّ استخدام القوّة كاضطرار فرضه احتلال أو ظلم ما غير استخدامها لأنّنا أقوياء وجبابرة نريد تصريف قوّتنا. وكما أنّ القوّة كاضطرار عنصر جاذب لتفهّم الآخرين ولتعاطفهم، فإنّ القوّة كخصلة من خصالنا الأصيلة مبعث خوف حيال أصحاب قوّة كهذه وسبب ارتياب بهم.

وهنا بالضبط يقيم أحد أهمّ الفوارق بين السياسة التي تخدمها القوّة والقوّة التي يراد للسياسة أن تخدمها، فينتهي الأمر بالاثنتين إلى حالة معمّمة من الخوف والتخويف وردّ الخوف في انتظار أن يقضي الله أمراً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن المقاومة واللغة في كلام المقاومين اللبنانيّين عن المقاومة واللغة في كلام المقاومين اللبنانيّين



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib