لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

المغرب اليوم -

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

قبل يومين، حلّ عيد الاستقلال الحادي والثمانون في لبنان. لكنّ «الاحتفال» ظلّ بارداً وخجولاً واعتذاريّاً، بل هو لم يحصل أصلاً، وهذا علماً بأنّ الأسبوع الذي سبق دلّ على أنّ اللبنانيّين لم يفقدوا قدرتهم على الاحتفال بدليل ما قالوه وكتبوه عن بلوغ المطربة فيروز سنّ التسعين. فتعبير «استقلال» في ظلّ هذه الحرب الرهيبة، يشبه لوحات سلفادور دالي ورفاقه السورياليّين، حيث يتشكّل المشهد من نقائض، فيما لا تنقشع تلك النقائض على حقيقتها كما تنقشع في الأحلام. يضاعف سورياليّةَ المشهد ذاك الترحّمُ على زمن الانتداب الفرنسيّ، ممّا يعبّر عنه، منذ سنوات لم تعد قليلة، عامّةُ الناس، ومعهم مثقّفون ومتعلّمون ما عادوا يتقيّدون كثيراً بالإذعان لما جُعل من مسلّمات «الصواب السياسيّ»، أو ربّما من المقدّسات.

وما من شكّ في أنّ الدفاع عن هذه المشاعر، وهي مشاعر، يبقى أمراً صعباً، لكنْ ما من شكّ أيضاً في أنّ من الصعب تجاهلها أو نبذها، هي التي أنتجتها المقارنة العارية بين ما كان عليه اللبنانيّون قبل الاستقلال وما باتوا عليه بعده. وها هم اليوم من يعبّرون عن عدم رغبتهم في الوحدة اللبنانيّة التي يُفترض أنّ الاستقلال من محطّاتها الكبرى، يجهرون بآرائهم ويدعون إلى تدبّر أمر البلد بطرق أخرى.

فليس في صالح الاستقلال، ولا من البراهين على جدواه، ما نعيشه اليوم بوصفه آخر الشواهد الكثيرة وأعلاها: أن تُخاض حرب مدمّرة لم يقرّرها البرلمان المنتخب، أو أن تكون رئاسة الجمهوريّة شاغرة والبرلمان صامتاً إبّان التفاوض لوقف هذه الحرب المدمّرة، بحيث يتولّى رئيس السلطة التشريعيّة التفاوض لا بصفته هذه، بل بوصفه ممثّلاً عن الحزب الذي زجّ نفسه وزجّ البلد في الحرب.

لقد قيل، حينما استقلّ لبنان في 1943، أنّ الاستقلال هذا إنّما هو خلاصة أمرين متلازمين: أن يكفّ المسيحيّون عن المطالبة ببقاء الانتداب الفرنسيّ، وأن يكفّ المسلمون عن المطالبة بإقامة وحدة مع سوريّا. وبالفعل كفّ الطرفان مذّاك عن هاتين المطالبتين، كما أنّ فرنسا لم تعد في وارد الرغبة بممارسة الانتداب أصلاً، ولا عادت سوريّا في وارد المطالبة بضمّ لبنان إليها. مع هذا، أطلّ، مرّاتٍ عدّة، وحش العجز عن بناء دولة مستقلّة حاملاً أسماء وعناوين أخرى يتراءى معها أنّ العجز المذكور يكاد يكون قدراً.

فـ»النفيان اللذان لا يصنعان أمّة»، بحسب العبارة الشهيرة للكاتب الراحل جورج نقّاش، لا يقتصران على التخلّي عن المطالبتين هاتين. إذ «النفي» الذي تتعدّد أشكاله يقيم في بطن بالغ الخصوبة، فيما يقيم توصّل اللبنانيّين إلى إجماعات في بطن عقيم ومجدب. ونعرف كيف أنّ طاقتنا الذاتيّة في النفي فاقت مثيلتها في التوكيد مرّة بعد مرّة. ونعرف أيضاً، وبفعل ذاك التفاوت، أنّ أكثر من نصف الـ81 سنة سبق أن قضاه اللّبنانيّون في حروب بينيّة، إمّا مديدة أو متقطّعة، وإمّا على نطاق وطنيّ أو منحصرة بمواضع ومناطق معيّنة... واستناداً إلى تجربة مأسويّة كهذه بات يمكن الاستنتاج أنّ لكلّ لبنانيّ عدوّاً لبنانيّاً، إمّا يفكّر بالاستقلال عنه أو يفكّر بوحدة معه لا تكون إلاّ إخضاعاً له ومصادرة لحقوقه.

وأنكى من ذلك أنّ الرواية «الثقافيّة» السائدة، وكما في أغلب الأحيان، إمّا قاصرة عن اللحاق بما أدركه الحسّ الشعبيّ تجريبيّاً، أو مُنكرةٌ ذلك كلّه، تستمدّ راحتها واطمئنانها من إجماع لفظيّ، بل تلفزيونيّ، صنعته اللغتان الرسميّة والإيديولوجيّة، حول عداوة «العدوّ الإسرائيليّ» الحصريّة.

والحال أنّ السؤال العمليّ والنظريّ الفعليّ يكمن بالضبط هنا: فإذا كان الاستقلال هو ما تناله الشعوب والبلدان، أو ما يُعطى لها، فما العمل حين لا يكون الشعب شعباً، ولا يكون البلد بلداً. وهو سؤال يتعدّى لبنان الذي ترجم مشكلته بالحروب الأهليّة، ومن بعدها، وبموازاتها، بالحرب الراهنة مع إسرائيل، إلى بلدان مشرقيّة أخرى، كسوريّا والعراق اللذين ترجما المشكلة بالانقلاب العسكريّ، حتّى إذا رحل مؤسّسا الطغيان الحديث فيهما انتقلا إلى حروب أهليّة متفاوتة الوتائر.

والراهن أنّ إفلاس الاستقلال اللبنانيّ، وإفلاس استقلالات كثيرة أخرى في «العالم الثالث»، لم يعد يُخفيهما ويتستّر عليهما إلاّ مبدأ الاستقلال ومبدأ حقّ الشعوب فيه. وهذا ما يحوج المُساجِل في أحقيّة الاستقلال لأن يتشدّق بالمبدأ القويم والمطلق ثمّ يعجز عن تقديم برهان عمليّ واحد يؤكّد أنّه مبدأ قويم ومطلق.

فالاستعمار وزمنه ولّيا، وخسرت تلك الأبويّة الأوروبيّة والغربيّة معركتها، بعدما خسرت تمييزها القديم بين «المتمدّن» و»غير المتمدّن». إلاّ أنّ شعوباً كثيرة من تلك التي استقلّت، وعلى رأسها الشعب اللبنانيّ، لم تكسب معركتها في التدليل على استحقاق الاستقلال الذي حصلت عليه قبل عشرات السنين. وفي هذه الهوّة نعيش الاستقلال بوصفه طقساً ميّتاً نمارسه ونحن نشخر ونغطّ نِياماً، أو ننساه، أو نضحك منه وعليه

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ



GMT 14:47 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

حرب اعتزاز ومذكرة مشينة

GMT 14:46 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 14:44 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

العدالة... ثم ماذا؟

GMT 14:40 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

شاورما سورية سياسية مصرية

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:01 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

استقرار لبنان... رهينة التفاوض بالنار

GMT 13:59 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

تغييرات في تفاصيل المشهد

GMT 13:57 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

نقطة ومن أول السطر.. انتهى مهرجان 45 وبدأ 46!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 15:24 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة
المغرب اليوم - أفكار لتوزيع قطع الأثاث حول المدفأة

GMT 17:57 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

«حزب الله» يوسع رقعة استهدافات صواريخه إلى تل أبيب
المغرب اليوم - «حزب الله» يوسع رقعة استهدافات صواريخه إلى تل أبيب

GMT 18:36 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
المغرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 11:20 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
المغرب اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:57 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

حذار النزاعات والمواجهات وانتبه للتفاصيل

GMT 09:02 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

وفاة الفنان المصري حسن يوسف اليوم عن عمر يناهز 90 عاماً

GMT 21:31 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

بورصة الدار البيضاء تفتتح التداولات بـ "ارتفاع"

GMT 20:59 2024 السبت ,26 تشرين الأول / أكتوبر

أهم توصيات مؤتمر الموثقين بمراكش

GMT 11:42 2017 الثلاثاء ,05 أيلول / سبتمبر

فك لغز مقتل أستاذ جامعي في الجديدة

GMT 10:02 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

وكالة ناسا ترصد صخرة «وجه الإنسان» على كوكب المريخ

GMT 17:57 2016 الأربعاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

زلزال يضرب "بحر البوران" قبالة سواحل مدينة الحسيمة

GMT 05:37 2020 السبت ,16 أيار / مايو

طريقة عمل غريبة بالسميد وجوز الهند

GMT 02:12 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

استمتع برحلة تلتقي فيها الشاعرية مع التاريخ في لشبونة

GMT 21:25 2018 الخميس ,25 تشرين الأول / أكتوبر

انتحار الصحافي رشيد بوغة في مدينة تيفلت

GMT 14:57 2021 الثلاثاء ,19 تشرين الأول / أكتوبر

برشلونة يمنح ديمبيلي فرصة اخيرة لحسم مستقبله

GMT 07:49 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج السرطان الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib