هواجس مسيحيي لبنان

هواجس مسيحيي لبنان

المغرب اليوم -

هواجس مسيحيي لبنان

حازم صاغية
حازم صاغية

قبل الجريمة الفظيعة في مرفأ بيروت، توفيت سيدة مسيحية اسمها جوسلين خويري بعد صراع طويل مع المرض. بدت وفاتها في البيئة المسيحية حدثاً لم يستعد كثيرون لمضاعفاته.

فجأة، وعلى أوسع نطاق، ذُكرنا بأن خويري كانت مقاتلة كتائبية في «حرب السنتين». نُشرت صورها القديمة وهي تحمل السلاح وتخوض المعارك. تتالت القصص التي تُروى عادة عمن تسميهم أحزابهم شهداء. القصص تجاورَ فيها الحقيقي والمضخم، كما يحصل عادة في تلك المناسبات. الوجه الإيماني والتعبدي في سيرة خويري صبغ البندقية بالبخور.

الحدث واستقباله الصاخب المفاجئ حملا دلالتين: أن المسيحيين هم أيضاً، في هذه الغابة التي تتناسل شهداء، لديهم شهداؤهم، وأن ثمة حنيناً يستولي عليهم إلى زمن السلاح، حين كانت الفتيات أيضاً يقاتلن إلى جانب الرجال.

مع انفجار المرفأ الذي دمر بصورة خاصة مناطق يسكنها مسيحيون، انضاف إلى تلك المشاعر شعور جديد وقاهر: نحن مغلوبون على أمرنا منذ نولد وحتى نموت. ذاك أنه رغم الدور المركزي للمسيحيين في نشأة لبنان، فإن الشراكة آخر ما يعني الشركاء في الوطن. من يريد من أولئك الشركاء أن يحمل السلاح لمحاربة إسرائيل، أو غير إسرائيل، سيحمله متجاهلاً بالكامل شريكه المسيحي، وهذا سبب كافٍ كي يشعر الأخير بأن هذا السلاح، وبغض النظر عن المزاعم الآيديولوجية، مرفوع في وجهه هو.

صحيحٌ أن اللبنانيين كلهم منكوبون ومقهورون اليوم؛ لكن قهر المسيحيين أكثر تركيباً في حاضره وأشد تجذراً في ماضيه. أما أحوال المنطقة فلا ترش إلا الملح على الجرح المتقرح.
إلى ذلك، هم ليسوا أقلية سياسية أو آيديولوجية كي يُفرض رأي الأكثرية عليها بالانتخابات أو ربما بالحرب الأهلية. إنهم أقلية دينية وطائفية يصح فيها ما يصح في الأكراد بوصفهم أقلية إثنية. والطرفان يحملان ثقافتين فرعيتين يستمدان منهما بعض المعاني التي تغاير المعاني السائدة لدى الأكثرية؛ لا بل هما يحملان مخيلتين جمعيتين لا تنسجمان تماماً مع المخيلة النضالية المألوفة. الأكراد – مثلاً - أهدوا العرب صلاح الدين الأيوبي، والمسيحيون ألحقوا به ميشيل عفلق وجورج حبش.

والراهن أن الأوطان يستحيل أن تُبنى - إذا أريد لها أن تُبنى - بتجاهل تلك الأقليات، وجعلها أشبه بضيوف ثقلاء في أوطانهم. والتجاهل هذا له تاريخ مديد في المنطقة، كأنْ يُخترع في عراق ما قبل 2003 «الجحوش» ويُعطى لهم تمثيل الأكراد، أو أن تنفخ الوصاية السورية في لبنان بعض الأفراد المسيحيين وتعهد إليهم بتمثيل المسيحيين.

والحال أن ثنائية الأكثرية والأقلية لا تُحسب بالأعداد فحسب؛ بل تُحسب أيضاً بامتلاك مصادر القوة والقرار. فالسنة في سوريا أكثرية عددية؛ لكنهم أقلية من حيث تلك المصادر. وقبل 2003 كان شيعة العراق - وهم أكثرية عددية - أقلية فيما خص القوة والقرار.

لكنْ كيفما قلَّبنا الأمر، يبقى أن رغبة انفصالية تعصف بمسيحيي لبنان اليوم اليائسين من «التعايش». لقد فُرضت عليهم مقاومة أولى تسببت في خسارة الأرض، وتحويل التناقضات الأهلية إلى حرب أهلية، ثم مقاومة ثانية فاقمت أسباب الحرب الأهلية، من خلال تكريس غلبة وتفاوت في السلاح غير مسبوقين. وفي أي وقت قد يظهر من يحول تذمراً طائفياً ما إلى سبب لحمل السلاح ورفع لافتة «تحرير فلسطين».

حملة البطريرك الماروني بشارة الراعي المتواصلة والمتصاعدة من أجل الحياد، والتآكل الشعبي الذي تتعرض له البيئة العونية بوصفها بيئة «متعاونين» مع «حزب الله»، ودعوة «القوات اللبنانية» إلى استقالة رئيس الجمهورية التي تكسر مُحرماً سياسياً تقليدياً، كلها تقول إن المسيحيين باتوا في مكان آخر. لقد دفعوا غالياً ثمن سياسات لم يُستشاروا مرة فيها، وهم جربوا السياسات الفاضلة، كوقوفهم إلى جانب سائر اللبنانيين في 2005 و2019، كما جربوا السياسات الحمقاء، كتعاطفهم مع «حلف الأقليات» ومع نهج عون – باسيل – الأسد. لا هذا أسعف ولا ذاك.
وهذا إنما يذكِّر - ولو على نطاق مصغر - بتجربة مريرة ينبغي بذل كل الجهود لتفادي تعريض المسيحيين غصبا عنهم إليها: ذلك أن اليهود الأوروبيين لم تنجح الثورة الفرنسية وإنجازاتها في رفع العقوبة التي عُرفت بـ«قضية دريفوس» عنهم، ولا أعفتْهم الثورة البلشفية ووعود الشيوعية من مواجهة الستالينية وظلاماتها. وهذه الخيبات حلَّت قبل أن يتوِّجها انتصار النازية وإطعام المحارق جثث اليهود. هكذا ارتفعت حظوظ الحل الذي اقترحه عليهم الصهاينة: فلتكن لنا إذن دولة خاصة بنا.

وكثيرون جداً من مسيحيي لبنان يحملون اليوم هذه الرغبة، وإن لم يملكوا أدواتها، ناهيك عن الطبيعة الجغرافية والديموغرافية للبلد التي تعقد فرزاً سكانياً كهذا؛ لكن شيئاً واحداً يبقى مؤكداً، هو أن لبنان، كتجربة وكنافذة عربية على الحداثة، يموت الآن، وأن المنطقة تعلن فشلها المطنطن في رعاية تجربة تقوم على التعدد والحرية.
في أي حال، هذا - في عرف كثيرين - ليس بالشيء المهم. المهم أن «حزب الله» ماضٍ في مقاومته!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هواجس مسيحيي لبنان هواجس مسيحيي لبنان



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 17:34 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

"فيفا" يكشف أسباب ترشيح ميسي لجائزة "الأفضل"
المغرب اليوم -

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib