نتنياهو بوصفه بن غوريون المضادّ

نتنياهو بوصفه بن غوريون المضادّ

المغرب اليوم -

نتنياهو بوصفه بن غوريون المضادّ

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

في 1956 قلب الموقفُ الأميركيّ الانتصارَ العسكريّ الإسرائيليّ إلى هزيمة سياسيّة. هكذا، وبفعل إصرار الرئيس أيزنهاور وإدارته، أصيبت بلدان «العدوان الثلاثيّ» على مصر، أي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بانتكاسة مُهينة استقال بسببها رئيس الحكومة البريطانيّة أنتوني إيدن. أمّا ديفيد بن غوريون فاستنتج درساً كبيراً تحوّل بعده إلى واحد من ثوابت المواقف الرسميّة والتأسيسيّة لإسرائيل. وكان مفاد الدرس هذا أنّ الدور الحاسم في الشرق الأوسط، الذي كانت بريطانيا وفرنسا تلعبانه، بات حكراً على الولايات المتّحدة. فالأخيرة، ومعها الاتّحاد السوفياتي، هما، بعد الحرب العالميّة الثانية، القوّتان الصاعدتان في هذا العالم. وبنتيجة الدرس المذكور، قاد بن غوريون عمليّة التحوّل التي بموجبها صارت واشنطن، بدل لندن وباريس الآفلتين، مرجعيّة تلّ أبيب السياسيّة. وبدوره لم يخلُ مسارُ التحوّل هذا من تذلّل واستجداء كان يحضّ عليهما أنّ واشنطن كانت لا تزال يومذاك أشدّ اكتراثاً بحلفائها في العالمين العربيّ والإسلاميّ ممّا بإسرائيل.

بسلوكه هذا بدا بن غوريون أستاذاً في الاستجابة لتوازن القوى وللتكيّف الديبلوماسيّ معه، فقطفت إسرائيل ثمار ذاك التكيّف، وهو ما بلغ ذروته في حرب 1967. وبالفعل آلَ الجمع بين التفوّق العسكريّ والتقنيّ والاعتماد على الولايات المتّحدة، وهما متداخِلان في آخر الأمر، إلى منح الدولة العبريّة نجاحات متلاحقة كانت تجد ما يدعمها في الديمقراطيّة البرلمانيّة كنظام وتنظيم معتَمَدين.

لكنّ من يبحث اليوم عن البنغوريونيّة في سلوك بنيامين نتانياهو، الصادر عن التقليد الجابوتنسكيّ المُراجِع، لن يجد شيئاً. فمنذ ابتداء الحرب على غزّة أُرفقت الحرب بعدمٍ سياسيّ رافق الفظاظة الإنسانيّة، وهو ما عبّر عنه عنوانا القضاء على «حماس» واستعادة الرهائن دون تفاوض. وإذا صحّ أنّ التطوّرات اللاحقة برهنت صعوبة التمسّك المطلق بهذين العنوانين، بقي أنّ الحملة المحتملة على رفح تعيد تزخيم تلك البداية بوصفها حرباً مطلقة وعدماً سياسيّاً. فبني غانتس أعلن أنّه إن لم يُطلَق سراح الأسرى جميعهم قبل بداية رمضان فإنّ حكومة الحرب ستطلق حملتها على رفح حيث تُحشَر أعداد هائلة من السكّان الغزيّين الضحايا. لكنّ إعلانه هذا ترافق مع تجديد نتنياهو رفضه الدولةَ الفلسطينيّة جملةً وتفصيلاً ووصفها بأنّها مكافأة على الإرهاب، وكان لوزيره سموتريتش أن حثَّه على التخلّي عن أوسلو في حال إعلان دولة فلسطينيّة من طرف واحد. وفيما كان هذا الصلف يتجاهل الموقف المعلن للولايات المتّحدة، فضلاً عن تجاهله مواقف لا حصر لها أبدتها دول وحكومات وآراء عامّة في العالم، وضع الوزير بن غفير تحفّظاته على دخول المصلّين المسلمين إلى المسجد الأقصى في رمضان، ما اعتبره معلّق «هآرتس» آموس هاريل مخاطرة بتفجير نزاع دينيّ. وهذا جميعاً إنّما يواكبه المضيّ في نهج يتراوح بين التشجيع وغضّ النظر حيال قطعان المستوطنين وارتكاباتهم، وعناوين داخليّة تشي بالتناقضات واحتمالاتها المفتوحة أكثر كثيراً ممّا تنمّ عن التماسك: يصحّ هذا في أحوال الضفّة الغربيّة المستباحَة، بينما تحتلّ استعادة الرهائن موقعاً أشدّ فأشدّ تعارضاً مع الحرب كما تخوضها إسرائيل.

لقد بات نتنياهو وحكومته الإئتلافيّة عبئاً على كلّ سياسة وكلّ مسار سياسيّ. فهما يمسّان مرتكزات أساسيّة وتأسيسيّة للدولة العبريّة تتصدّرها العلاقة الخاصّة بالولايات المتّحدة، والعلاقات المميّزة مع بلدان أوروبا الغربيّة. لكنّهما أيضاً، وعلى صعيد المنطقة، يطرحان أسئلة جدّيّة على مستقبل السلام مع مصر والأردن، وربّما لاحقاً مع باقي البلدان التي طبّعت، وهذا ناهيك عن تضاؤل احتمال السلام والتطبيع مع بلدان كانت مرشّحة، لو اختلفت الظروف والمواقف، لأن تسالم وتطبّع.

وبإيصادها أبواب السياسة، واختيارها الحرب المطلقة، توفّر الدولة العبريّة تفهّماً أكبر لما تفعله أذرع إيران في لبنان واليمن والعراق، وتقبّلاً أكبر لسرديّات هذه الأطراف بما فيها من التواء وأكاذيب. ولسوف تظهر الإسرائيل التي يقودها نتنياهو عضلاً مجنوناً بلا عقل ولا لسان، خصوصاً إذا تمكّن الفلسطينيّون من إعادة ترتيب بيتهم الداخليّ وتوفير صيغة تنضوي فيها «حماس» داخل منظّمة التحرير بعد تبنّيها برنامج الأخيرة.

هكذا، وحتّى لو انتصرت إسرائيل في حملة أخرى بالغة الدمويّة والتوحّش في رفح، فإنّ معادلات كثيرة تحيط بها قد تتغيّر في غير صالحها: نرى هذا في اهتزاز ثوابت المرحلة التي ابتدأت عام 1956، خصوصاً العلاقة بأميركا، كما في العناصر الجديدة حيال الصلة بالمنطقة والموقع منها. ولإسرائيليٍّ يغار على دولته، دع جانباً موقفه من الحقّ الفلسطينيّ، سيكون تحصيلاً حاصلاً أن يخشى يوماً لا تعود فيه التضحية بنتنياهو وائتلافه كافية لإنقاذ المعنى الإسرائيليّ، أو استنقاذ حطامه من براثن الحرب المطلقة ومفاعيلها.

وهذا في عمومه تهديم متعاظم لما بناه الأوّلون، أو هو بنغوريونيّة مضادّة. فذاك المؤسّس، وكان قد تقاعد من السياسة، دعا إلى الانسحاب من الأراضي المحتلّة في 1967 باستثناء أجزاء من القدس، ولم يطلب لذلك أكثر من ترتيبات هدنة تكون عمليّة وقابلة للحياة. وبالطبع لم يكن الفلسطينيّون أو العرب ما يَهمّ بن غوريون، بل كانت مصلحة إسرائيل ما يحرّكه، وهي حرّكته في وجهة مغايرة كلّيّاً للبدائيّة التي بموجبها يرى نتنياهو تلك المصلحة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نتنياهو بوصفه بن غوريون المضادّ نتنياهو بوصفه بن غوريون المضادّ



GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

GMT 17:32 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترمبية... من الباب الكبير

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 18:29 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي
المغرب اليوم - أخنوش يتباحث مع الوزير الأول لساو تومي

GMT 17:27 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة
المغرب اليوم - النوم الجيد مفتاح لطول العمر والصحة الجيدة

GMT 13:12 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الحوت السبت 26-9-2020

GMT 13:22 2021 الأحد ,19 أيلول / سبتمبر

نادي شباب الريف الحسيمي يواجه شبح الانقراض

GMT 06:23 2023 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات الأبراج اليوم السبت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023

GMT 11:08 2023 الجمعة ,08 أيلول / سبتمبر

بلينكن يشيد بـ«الصمود الاستثنائي» للأوكرانيين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib