ليس كاتب هذه السطور معروفاً بالودّ حيال «حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ»، لا في أفكاره ولا في أعماله، لا في الأنظمة التي أقامها ولا في المعارضات التي اعتمدها ضدّ أنظمة قائمة، لا في نسخته السوريّة ولا في نسخته العراقيّة، لا في مدنيّيه ولا في عسكريّيه، لا في يمينيّيه ولا في يساريّيه... وليعذرني القارئ إذا قلت إنّني أحد أكثر الذين كتبوا سجاليّاً ونقديّاً ضدّ «البعث» في فكره وسلوكه.
مع هذا فإنّ النهج الذي يتّبعه «حزب الدعوة الإسلاميّ» العراقيّ في مكافحة حزب البعث لا يستحقّ إلاّ وصفاً واحداً: النزعة الثأريّة. فعملاً بالنهج المذكور يتبدّى كما لو أنّ السياسة والثأر اسمان لمسمّى واحد، علماً أنّ إحدى وظائف السياسة، إن لم تكن وظيفتها الأهمّ، تفادي الثأر بوصفه واحداً من الأفعال العنفيّة التي على السياسة أن تتفاداها.
مؤخّراً أثار نوّاب عراقيّون ينتمون إلى «الدعوة» ضجّة غريبة مصدرها اعتراضهم على ترخيص الحكومة الأردنيّة لحزب «جديد» محسوب على النظام العراقيّ البائد، أي حزب البعث في الأردن، كما طالبوا باستدعاء السفير الأردنيّ في بغداد لاستجوابه وإبلاغه احتجاجهم.
والحال أنّ حزب البعث في الأردن ليس جديداً، وقد شارك، في زمن يرقى إلى أواخر الخمسينات، في حكومة سليمان النابلسي، وليس ثمّة ما يدلّ على تعارض أفعاله الراهنة مع ما تجيزه الحياة السياسيّة الأردنيّة. أمّا مشاركة بعثيّي الأردن أفكاراً، لا أفعالاً، قال بها «البعث» الحاكم في العراق حتّى 2003، فلا تبرّر المطالبة بقمعهم ومنعهم من العمل السياسيّ، لا سيّما حين تصدر المطالبة عن طرف غير أردنيّ.
لكنّنا نعلم أيضاً أنّ «الدعوة» كان صاحب اليد الطولى في سياسة «اجتثاث البعث» في العراق، والتي بدأت مع إسقاط نظام صدّام حسين قبل عشرين عاماً. بيد أنّ هذه السياسة ما لبثت أن تكشّفت عن ميل انتقاميّ ضدّ الطائفة السنّيّة يأخذ الصالح بالطالح والبريء بالمذنب. ولم يكتفِ الدعوويّون بالمضيّ في هذا الاجتثاث حتّى اليوم، ولو من دون إسراف في استخدام التعبير، إذ ها هم يعملون على تصدير السلوك المذكور إلى بلد آخر.
وتجربة كهذه تنبّه إلى جملة أمور تقيم عميقاً في حياتنا السياسيّة، وليس «الدعوة» سوى تعبير واحد جلف من تعابيرها.
فالمنتصر الذي يواصل اجتثاث خصومه، في داخل بلده وفي خارجه، إنّما يشعر عميقاً بهشاشة انتصاره عليهم، وبأنّه ليس أهلاً للانتصار الذي وهبه إيّاه طرف آخر. وإذا كان لهذا الشكّ الداخليّ العميق بالذات ما يسنده في واقع العراق الحاليّ والبائس، فإنّه غالباً ما يترافق مع التمسّك باللغة القديمة، لغةِ ما قبل الانتصار، عن الخطر الداهم والتعرّض للمؤامرات وتمثيل دور الضحيّة الذي لا يتغيّر. ولنا في «حزب الله» اللبنانيّ، شقيق «حزب الدعوة»، نموذج باهر، حيث يقيم التلويح بالانتصار وبانتهاء زمن الهزائم وبإذلال إسرائيل جنباً إلى جنب التباكي على المظلوميّة والاستضعاف والتعرّض للتآمر.
ثمّ أنّ أحزاباً كـ «الدعوة» إنّما تؤكّد المؤكّد، وهو أنّ الكثير من الضجيج الحزبيّ والإيديولوجيّ في منطقتنا لا يعدو كونه تمويهاً «حديثاً» لنزعة طائفيّة صريحة. فقد يكون الوطن أو الإسلام أو العروبة أو فلسطين أو الطبقة العاملة هو العنوان المعلن، لكنّ مصالح جماعة بعينها في السلطة والثروة هي الموضوع الفعليّ الذي لا يُلبّى إلاّ على حساب جماعة أخرى. وهذا هو القَبَليّ الضامر في أحزابنا والذي ينفث السمّ الثأريّ المغطّى بيافطات عقائديّة.
وتلك، على العموم، مدرسة عريقة في الحياة السياسيّة العربيّة، مدرسةٌ كان «حزب البعث» أحد أبرز مؤسّسيها، وبات «حزب الدعوة» راهناً أحد أبرز أركانها.
فعقليّة الاجتثاث هي هي، والسلوك الأمنيّ هو هو، وكذلك احتكار الحقيقة واعتبار أنّ من يخالفها أو لا يذعن لها خائن أو متآمر. وقد سبق للبعثيّين مذ فازوا بالسلطة في بلدين عربيّين أن ألغوا التاريخ السابق على قيام سلطتيهما، تماماً كما يفعل «الدعوة» استئصالاً لكلّ تذكير بعراقٍ سبق وجودُه وجودَ «الدعوة».
ونعلم أنّ الأخير كان ذات مرّة ضحيّة من ضحايا «البعث» في العراق، وها هو «البعث» يتحوّل ضحيّة من ضحايا «الدعوة» في عمليّة من تبادل موسّع ومعمّم ودائم للدور إيّاه.
وفي ذلك شيء من النظريّة النفسيّة التي تقول إنّ تعنيف الآباء لأبنائهم يحوّل الأبناء أشخاصاً عنيفين ومُعنِّفين. وحزب البعث، بهذا المعنى، إنّما كان واحداً من أكبر آباء حزب الدعوة، وفي أغلب الظنّ سوف يطالعنا الغد ببعث ما، أو بما يشبه «البعث»، ويكون واحداً من أبناء حزب الدعوة المتشوّقين إلى تعنيفه.