بقلم : حازم صاغية
إن أُجريت الانتخابات النيابيّة الموعودة في لبنان، فإنّ أزمة هويّة قد تنفجر في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، أو في ما تبقّى منها. لكنْ حتّى لو لم تُجرَ الانتخابات تلك، يُرجّح أن لا تتغيّر النتيجة كثيراً. الأزمة المذكورة تضرب قوى أساسيّة ثلاثاً: العونيّين والحريريّين والبِرّيّين، أو بالأسماء التنظيميّة: «التيّار الوطنيّ الحرّ» و«تيّار المستقبل» و«حركة أمل».أغلب الظنّ أنّ المُنتمين إلى هذه البيئات الحزبيّة، لا سيّما البيئتين الأوليين، يتساءلون هذه الأيّام: من نحن؟ أغلب الظنّ أيضاً أنّهم يفعلون ذلك بكثرة وإلحاح وربّما بعصبيّة.
لأسباب مختلفة، وربّما حتّى إشعار آخر، لن يواجه «حزب الله» و«القوّات اللبنانيّة» و«الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ» أزمة من هذا النوع. هذه القوى الثلاث راسخة، ولو بتفاوت، في ما تدين به. لديها مشاكلها الكثيرة لكنّها ليست من جنس مشاكل الهويّة.
في المقابل، أوّل القواسم المشتركة بين العونيّين والحريريّين والبِرّيّين أنّهم جميعاً ثمار مشاريع بلغت حدودها القصوى ثمّ انتهت إلى نتائج أقلّ من دنيا: مع العونيّين، وصل زعيمهم الجنرال إلى رئاسة الجمهوريّة بعد سجلّ حافل بالآلام والنفي والمساومات، ولكنْ أيضاً بالوعود المنتفخة، فإذا هي أسخف رئاسة وأشدّها هزالاً وأكلافاً في التاريخ الحديث لهذا البلد. مع الحريريّين، انتهت تجربةٌ في حجم اغتيال رفيق الحريري ثمّ وراثة نجله سعد الذي وُلّي رئاسة الحكومة غير مرّة، بسؤال من جنس الحزازير: هل سيخوض سعد الانتخابات أم لا، هل سيبقى سياسيّاً أم سيعتزل السياسة؟ أمّا البرّيّون الذين نجح زعيمهم نبيه برّي في اقتطاع المجلس النيابيّ وتكريس استحواذه على رئاسته، فيبحثون عن قائد وريث، فيما يئنّون تحت وطأة عجزهم عن التصريح بما في صدورهم، وعن ضيق حركتهم في عقد التحالفات وفي اختيار العداوات.
وفي معزل عن الأشخاص الذين مثّلوا المشاريع السياسيّة الثلاثة، وعن هزالهم أو قصورهم، يبقى من الملائم أن نتساءل عن المشاريع نفسها، وعن الدور الذي لعبته طبيعتُها في التسبّب بهذا الهزال التمثيليّ الذي تنتهي إليه.
فالعونيّة نقلت المسيحيّين، أو أكثريّتهم، من موقع إلى آخر في السياسات المحلّيّة والعربيّة والدوليّة سواءً بسواء. الحريريّة فعلت شيئاً مشابهاً بالسنّة، أو بأكثريّتهم. أمّا البرّيّة، ورغم انحيازاتها التي تظهر على طريقة «في التحليل الأخير»، فتبقى مُحيّرة: من جهة، ورثت الحيرات الكثيرة لمؤسّسها الإمام موسى الصدر. ومن جهة أخرى، باتت قليلة الثقة بالزمن إذ طال انتظارها موتَ «حزب الله» الذي لا يأتي. إنّها على مشارف يأس قاتل.
مقابل هذه الحيرة البرّيّة التي لا تؤسّس لأيّة ديمومة، ولا تصلّب أيّة وجهة، فإنّ سطحيّة النقلتين العونيّة والحريريّة تجعل الأولى أقرب إلى غيمة صيف، والثانية أشبه بربيع لم يكتمل.فالعونيّة لم تستسغ، في العمق، المقاومة والتحالف مع سوريّا الأسد وإيران خامنئي، ناهيك عن مناهضة «الإمبرياليّة والصهيونيّة». أمّا البيئة السنّيّة التي التفّت حول الحريريّة فلم تعد ترى زعيمها في عبد الناصر، أو في عبد ناصر ما، ولا عادت ترى جيشها في المقاومة الفلسطينيّة، أو في مقاومة ما، لكنّ هذه البيئة لا زالت تبحث عمّا صارتْه، أو عن معنى تصيره؟
من جهة أخرى، وللأسباب الطائفيّة المعروفة، لم تتحوّل القوّتان المذكورتان إلى ممثّلتين لبورجوازيّة عابرة للطوائف، ولا كان أمر كهذا مطروحاً أصلاً. يصحّ ذلك أيضاً في البرّيّة التي صار «حزب الله» ينافسها على تمثيل البورجوازيّة الشيعيّة نفسها بعدما نجح، بالحرام قبل الحلال، في استيلاد شطر منها وإلحاق شطر آخر.
ويبقى الأهمّ أنّ العونيّة حين لا تكون على علاقات خاصّة بـ «الغرب»، ويكون رئيسُ تيّارها مشمولاً بعقوبات أميركيّة، تشبه الحريريّة حين لا تجمعها علاقات خاصّة بـ «العرب». أي أنّ عون والحريري يشكّلان راهناً الثنائيّة المعاكسة تماماً لثنائيّة بشارة الخوري ورياض الصلح التي غالباً ما قُدّمت كشرط تأسيسيّ للاستقلال. أمّا البرّيّة فعليها أن تستأذن شقيقها الطائفيّ الأقوى في الأمور الجدّيّة، الداخليّ منها والخارجيّ.
والحال أنّ ما بات في يومنا هذا يفاقم النواقص ويظهّرها هو التحدّي غير العاديّ الذي صار «حزب الله» يطرحه على التركيبة اللبنانيّة بمجملها: فالعونيّون غير متروك لهم سوى فتات السلطة، وقد يفاجئهم الحزب بحرب تقضم ذاك الفتات نفسه. والحريريّون، الذين انهزموا أمام «حزب الله»، لم يتبقّ أمامهم سوى مغازلته علّه يمنّ عليهم بفتات مشابه، فيما البرّيّون مهدّدون دوماً في قدرتهم على الاحتفاظ بالفتات المتروك لهم.
فليس صدفة بالتالي أن ينكمش كلّ حديث عن الحريري إلى تكهّنات حول أمواله وأمزجته الشخصيّة، وأن يتأرجح الكلام عن جبران باسيل بين وصوله إلى رئاسة الجمهوريّة وعجزه عن الفوز بمقعده النيابيّ. أمّا مصير «أمل» برمّته فمطروح على المحكّ، فيما تحوم التقديرات الغائمة والغامضة حول وراثة برّي.أيّة خريطة سياسيّة بديل قد تنشأ؟ يصعب الجواب الآن، لكنّ السؤال يبقى مُغرياً لسبب واحد على الأقلّ: معرفة لمن سيتّجه الاحتقار في الطور المقبل!