عن أولويّات الحرب وفعل المفاجآت الكبرى

... عن أولويّات الحرب وفعل المفاجآت الكبرى

المغرب اليوم -

 عن أولويّات الحرب وفعل المفاجآت الكبرى

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

ضدّاً على أساطير كثيرة تسبغ البطولة والنبل على المحاربين، فإنّ الحروب تُخرج من البشر أسوأ ما فيهم. بهذا المعنى، يكسب صاحب التكوين الحربيّ معركة أولى، وإن لم تكن أخيرة، بمجرّد أن يجرّ صاحب التكوين غير الحربيّ إلى الحرب.
إنّه يجرّه إلى سلوكه المفضّل وأرضه المختارة، تماماً كما يكسب مُحبّ العنف جولةً حين يجرّ كاره العنف إلى عراك بالأيدي.
مُحبّ العنف هو الذي تشكّل عبادة القوّة المصدر الأبعد لفكره وسلوكه، وعلى أساس القوّة تنبني سلطته وينهض تنظيمه لمجتمعه. ورغم أنّ حبّ العنف لم يفارق المجتمعات الغربيّة الحديثة، لا سيّما منه العنف الاستعماريّ، ورغم أنّ العنف كان أحد أمتن الجسور التي عبرتها الحداثة إلى حيث انتهت إليه، فإنّ السلطة والمجتمع الديمقراطيّين الراهنين لا يقومان على هذا المبدأ، والأصحّ قوله أنّ كلّ انجرار منهما إلى الحروب كان يضعضع الديمقراطيّة في هذين المجتمع والسلطة. هذا على العكس تماماً من أثر القوّة على السلطة والمجتمع غير الديمقراطيّين اللذين يجدان فيها ما يصلّبهما ويقوّيهما، فيحوّلانها أساساً تنهض عليه وحدة «فولاذيّة» مرتجاة. وحتّى لو كسبت الديمقراطيّة حرباً، وهي غالباً ما تفعل، يبقى أنّها تلعب في غير ملعبها، أو تنجرّ انجراراً إلى ما يُفترض أنّه ملعب الآخرين. هكذا نلاحظ مثلاً أنّ دخول الولايات المتّحدة الحرب العالميّة الثانية جاء بعد «مفاجأة» بيرل هاربور، وهي «المفاجأة» التي عادت لتتكرّر، بزيّ آخر، مع ضربة 11 سبتمبر (أيلول) 2001. أمّا اليوم، مع الحرب الروسيّة في أوكرانيا، فقد أخذت «المفاجأة» أوروبا التي كانت مشغولة بخفض ميزانيّات التسلّح.
وغنيّ عن القول إنّ الذي لا تأخذه المفاجأة هو صاحب المفاجأة وحده.
أمّا التفاجؤ، فإلى صدوره عن التكوين غير الحربيّ لصاحبه، وعن غلبة رهانه على الاقتصاد والبيزنس وتوسيع نطاقهما، ترفده أسباب متفاوتة كثيرة.
فالسياسيّون قد يكونون سذّجاً أو تافهين، أو ما دون الحدث عموماً، وهو احتمال يلازم الأنظمة الديمقراطيّة وبرلماناتها وبعض قادتها. أهمّ من ذلك وأبعد أنّ الغامض وغير المألوف يفاجآن من حيث المبدأ، فيما المجتمع الحديث خصوصاً يحضّ على التفاجؤ بما هو غير مألوف وغامض. بل هو، في تصوّره الخَطّيّ للزمن، وفي توهّمه السيطرة على الحياة، يتفاجأ حتّى بالموت كواقعة لا سيطرة عليها.
والمفاجأة ليس هناك من نظام متّفق عليه في التعامل معها، فضلاً عن أنّ الهزّة التي تُحدثها في الوعي والسلوك تبعث من تحت الأرض قوىً بدائيّة وغرائزيّة ظُنّ أنّ الحضارة المعاصرة قد طوتها. هكذا يظهر فجأةً ما يبدو أخطاءً، بل خطايا، بقياس أزمنة السلم والعاديّة. فهل يُعقَل مثلاً، كما نروح نتساءل، أن تعامل الولايات المتّحدة اليابانيّين المقيمين فيها مثلما عاملتهم فيما كانت تخوض معركة القيم الإنسانيّة الكبرى ضدّ النازيّة، أو أن يُعامَل المسلمون فيها بمثل ما عوملوا بعد 11 أيلول؟
وهل يُعقل اليوم أن تترافق الحرب الدفاعيّة والأخلاقيّة لتحرير أوكرانيا وضمان استقلالها مع إجراءات أوروبيّة وأميركيّة تنطوي على الكثير من العقاب الجماعيّ و«صيد الساحرات»؟ نعم، يُعقل. هذا للأسف ما لا يحدث غيره في الحروب. ومن أجل تقريب الصورة قليلاً، نعود إلى الظروف التي عشناها جميعاً في الخليج وفي العالم العربيّ بعد غزو صدّام حسين دولة الكويت في صيف 1990. يومذاك فوجئ العالم كلّه بالغزو، الذي كان فعلاً أشبه بالضربة الخاطفة (Blitzkrieg).
ولم يكن بلا دلالة أنّ الردّ على الضربة الخاطفة أخذ شكل «عمليّة» (Process) طويلة ومعقّدة، لا تفاجئ أحداً بطبيعتها، لبناء تحالف عسكريّ يعيد إلى الكويت حرّيّتها واستقلالها. لكنْ في هذه الغضون، وفي جميع البلدان العربيّة من غير استثناء، انفجرت موجة من العنصريّات والعنصريّات المضادّة التي دفع الكثيرون ثمنها من حياتهم أو عملهم أو أماكن إقامتهم.
وهي موجة تُدان بقوّة، وتُدان بالطبع، إلاّ أنّ الإدانة لا تتقدّم على إدانة السبب الذي أدّى إليها، أو فجّرها، وهو غزو صدّام حسين للكويت. إدانتها، إلى ذلك، لا تقلب الأولويّات التي يتصدّرها أنّ معركة الكويتيّين كانت حقّاً فيما حرب صدّام بُطل وعدوان.
والشيء نفسه يصحّ في الحروب، أو في أغلبها: ما حدث لليابانيّين وللمسلمين في الولايات المتّحدة معيب وخاطئ ولا أخلاقيّ، لكنّه لا يقلّل من حقّيّة الحرب الأميركيّة ضدّ دول المحور وضدّ بن لادن. ما يفعله بعض الأوكرانيّين وحلفائهم لا يخلو من أخطاء، منها ما هو فادح وكبير. لكنّ معركة الأوكرانيّين، ومعهم الغربيّون، ضدّ الاجتياح الروسيّ تبقى عادلة ومُحقّة وأخلاقيّة.
إنّ من يتفاجأ غالباً ما يكون على حقّ، حتّى لو لم يسْمُ دائماً إلى سويّة حقّه. من يفاجئ غالباً ما يكون معتدياً. المفاجأة، هذه المرّة، ربّما باتت من طبيعة نوويّة تفرض علينا قياس الأحجام والمسؤوليّات بدقّة أكبر!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 عن أولويّات الحرب وفعل المفاجآت الكبرى  عن أولويّات الحرب وفعل المفاجآت الكبرى



GMT 19:37 2024 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

وانفقأ دُمّل إدلب

GMT 14:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الحضارة بين العلم والفلسفة أو التقنية والإدارة

GMT 14:35 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 17:39 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أي تاريخ سوف يكتب؟

GMT 17:36 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تَدَعوا «محور الممانعة» ينجح في منع السلام!

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمّان - المغرب اليوم

GMT 07:50 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود
المغرب اليوم - ميركل تكشف السر وراء صورتها الشهيرة مع بوتين والكلب الأسود

GMT 11:51 2019 الجمعة ,21 حزيران / يونيو

شهر حزيران تميمة حظ لمواليد برج السرطان

GMT 13:31 2017 الثلاثاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

السفير المغربي سمير الدهر يتعرض إلى السرقة في حي يسيشيكو

GMT 19:54 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

والد حمزة منديل يرفض الرد على اتصالات نجله

GMT 02:43 2015 الإثنين ,14 أيلول / سبتمبر

حلى الزبادي بالأوريو

GMT 08:36 2017 الثلاثاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

شركة "تسلا" تبني مصنعًا لإنتاج السيارات الأجنبية في الصين

GMT 08:25 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

نتائج القسم الثاني لكرة القدم بالمغرب

GMT 07:21 2023 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

أبرز النجمات اللواتي ارتدين البدلة الرسمية هذا العام
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib