عادة ما ينصب الاهتمام حول الشباب ومشكلات الهجرة والبطالة والصراع بين الأجيال، ومنذ سنوات بدأ الاهتمام بالطفولة، وكذلك لاحظنا تنامي الاهتمام بمسألة المرأة... ولكن قلما يتم طرح مسألة كبار السن.
وكما نعلم، فإن العالم يحيي غداً اليوم الدولي للمسنين، وهي مناسبة لنعاين واقع هذه الفئة العمرية، وأي تحديات تعرفها في لحظة عالمية متعددة الحراك والتغييرات.
تقول التقديرات الأمميّة إنه من المتوقع أن يتضاعف عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً أو أكثر في جميع أنحاء العالم، ليرتفع من 761 مليوناً في عام 2021 إلى 1.6 مليار في عام 2050. ويتزايد عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 80 عاماً أو أكثر بشكل أسرع. ومثل هذه الإسقاطات السكانية تفيد آلياً بارتفاع الحصة العالمية من المسنين من أقل من 10 في المائة إلى نحو 17 في المائة. أي أنه بعد ربع قرن سينتمي نحو خمس السكان إلى فئة كبار السن.
لنقلها صراحة: لم يكن موضوع كبار السن يطرح؛ لأنه موضوع أخلاقي وقيميّ، ولأن التضامن الأسري كان يملي العناية بكبير السن وإيلاءه مكانة اعتبارية في الأسرة والمجتمع. وفيما يتعلق بالنسق الثقافي العربي والإسلامي فإن فئة كبار السن تهيمن على أدوات السلطة في المجتمع بشكل جعل غالبية الحكام كبار سن، وكبار المثقفين والمبدعين كبار سن، ورجال الدين المؤثرين كبار سن، وهي مراتب نتاج ثقافة تولي تقديراً مخصوصاً لكبار السن. ومن رحم هذه الثقافة ظهرت أصوات في الفضاء العربي الإسلامي تدعو إلى التشبيب ومنح الشباب فرصته في الحكم، وفي الاعتراف بقدراته الإبداعية، وفي ضخ دماء جديدة في كافة مناحي الحياة والفعل والإنجاز. وفي الحقيقة بدأت هذه الأصوات تؤتي أكلها ونرى تشبيباً يختلف من بلد إلى آخر في وتيرته وحجمه.
المشكلة اليوم أن الأسرة بوصفها مؤسسة حاضنة تاريخياً لكبير السن تعرف بفعل التحديث الذي انطلق من عقود تغييرات مست من مكانة كبير السن. كما أن الفردانية باعتبارها طريقة في الحياة تفرض نمطاً من العلاقات الاجتماعية لا وجود فيه لمراعاة الغير ولتحمله ولمعنى التضحية... هذه التغييرات أدت إلى ظهور فئة من كبار السن فاقدة للسند، الشيء الذي ضاعف من الدور الاجتماعي للدولة.
وبشكل عام، اليوم هناك مأزق حقيقي في هذا الصدد، حيث إن اهتمام الدولة بهذه الفئة وتوفير مراكز الرعاية بقدر ما هو جوهر الدور الاجتماعي للدولة وإنقاذ لكبار السن من الشارع ومن الاستغلال وهدر الكرامة، فإنه أيضاً تشجيع غير مقصود لتراجع الأسرة عن أداء دورها الطبيعي والتاريخي.
لذلك، فنحن مدعوون في العالم العربي والإسلامي إلى استباق استفحال الظاهرة والقيام بغرس ثقافي واع ومقصود من أجل إعادة تجذير مكانة المسن في العائلة باعتبار أن التفريط في حق هذه الفئة في التضامن العائلي والعناية والرعاية والدعم النفسي والإحاطة بها إنما يمثل عطباً قيمياً وأخلاقياً يمس عصباً رئيسياً في النسق الثقافي العربي الإسلامي.
من ناحية أخرى، من المهم للدول الانتباه في سياساتها في مجالات الإسكان والنقل والصحة إلى تزايد هذه الفئة العمرية، وخاصة إلى ارتفاع أمد الحياة بالنسبة إلى الجنسين، الشيء الذي يعني أن ملايين من كبار السن باتوا يحتاجون إلى خدمات تمتد على سنوات طويلة، مما يضاعف من أهمية دور الأسرة، وإلى ضرورة إيلاء الحماية الاجتماعية أهمية مضاعفة.
وبالنسبة إلى أوروبا والغرب عموماً، فإن الغالب على السكان هم فئة كبار السن، ونلحظ وجود إقامات خاصة بهم وجهوداً مبذولة من أجل خدمات ذات جودة لهذه الفئة المهيمنة على النسيج السكاني لدول عدة.
وما يمكن ملاحظته هو أن العالم يسير نحو ارتفاع عدد المسنين، وهو مُعطى يطرح تحديات كبيرة أمام صناديق الضمان الاجتماعي والتقاعد، خصوصاً مع ارتفاع أمل الحياة الذي وضع صناديق التقاعد في أزمات مالية والمسن الذي كان لا يتمتع بتقاعده إلا بضع سنوات أصبح يتمتع بتقاعده لعقدين كاملين وأحياناً أكثر.
ومن المتوقع في صورة تواصل انسحاب الأسر من الاضطلاع بدورها، وتزايد هذه الظاهرة وانتشارها مع الزمن وتعاقب الأجيال، فإن الدول ستجد نفسها في مشكلة حقيقية. ناهيك عن أن خلق سوق لتلبية حاجيات المسنين والخدمات من شأنه أن يفتح نوافذ اقتصادية جديدة، على ألا نتنازل عن دور الأسر مهما تقدم المجتمع في مساره التحديثي، حيث إن البيئات الداعمة تؤدي دوراً محورياً في إدماج المسنين، وفي إعطاء نهايات العمر معناها الإنساني القيمي للمسن وللمجتمع، ولمعنى الوجود والثقافة، وخاصة في تلبية الحق في شيخوخة آمنة بعيدة عن مظاهر التهديد ومصادرها.