د. آمال موسى
منذ أشهر طويلة و تونس تعيش على وقع أزمة سياسية حادة أثرت بشكل كبير في الوضع الاقتصادي ومستقبل الوضع المالي، خصوصاً أن التداعيات جعلت تونس تُصنف دولياً، ومن أطراف فاعلة في عالم الأسواق والاستثمارات، كدولة تسير بخطى حثيثة نحو الهاوية مالياً.
وفي الحقيقة، فإن مظاهر التأزم الاقتصادي واضحة من خلال تكلس معالجة معضلة البطالة، وتواصل تدفق التونسيين في قوارب الموت والهجرة السرية، وأيضاً تراجع المقدرة الشرائية وتأكد مؤشرات التضخم المالي وتدهور الأحوال المعيشية للطبقة المتوسطة، التي تمثل العمود الفقري للمجتمع في تونس.
وإذ نركز على الربط بين السياسي والاقتصادي؛ فلأننا حالياً لا نستطيع الحديث عن الأزمة السياسية في تونس الحاصلة بين مؤسسات الحكم الثلاث من دون الحديث آلياً عن تداعياتها الاقتصادية، وهذا حسب اعتقادنا مظهر مهم تفطنت إليه المؤسسات الدولية المالية، وجعلت من معالجة الأزمة السياسية التونسية شرطاً لا غنى عنه، ومقدمة ضرورية لدعمها مادياً، ومحاولة إيجاد حلول لتحريك عجلة الاقتصاد المعطلة، التي نقصد بها الاستثمار الذي لا يزدهر إلا في بيئة سياسية، من خصائصها الاستقرار.
ركزت النخب السياسية المعارضة في مقاربتها للأزمة السياسية على غياب المحكمة الدستورية، ورأت أن الأطراف الثلاثة عملت على تأجيلها، وها هي اليوم تحصد نتيجة سوء التكتيك السياسي الذي صور المحكمة الدستورية في شكل مؤسسة عليا ستسحب البساط من طرف حاكم لفائدة طرف حاكم آخر. وطبعاً، فإن مبعث هذه المخاوف هو عدم الثقة بين الطبقة الحاكمة في تونس، اليوم، وهي طبقة أفرزتها الانتخابات الأخيرة، وكانت متباينة ومختلفة الميول والمقاربات السياسية، الأمر الذي أدى إلى صعوبة التعايش السياسي والعمل معاً، طبقاً لنتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
وكي نفهم مشكلة المحكمة الدستورية في تونس، ولماذا يكثر الحديث عنها، من المهم التذكير ببعض المعطيات البسيطة الدقيقة التي تؤكد لنا فكرة غياب الإرادة السياسية لإحداث هذه المحكمة، إضافة إلى أن الفتور الملاحظ إلى درجة تعطيل إرسائها والعمل على جعلها مسألة مؤجلة يطرح بدوره مجموعة من الأسئلة التي تكافح عدم براءة ما يجري، ناهيك بالحسابات قصيرة المدى.
وتتمثل المعطيات التي تساعدنا في فهم ضعف الإرادة السياسية لتكوين المحكمة الدستورية في أن الدستور الذي تم إقراره في نهاية سنة 2014 نص على ضرورة بعث محكمة دستورية في غضون سنة من ذلك التاريخ. ولكن ها هم التونسيون يتجاوزون الأعوام الستة من دون إحداث هذه المحكمة، وهو تقاعس مسيّس واضح يعكس غياب الإرادة السياسية لذلك.
وبناء على أن أهمية أي مؤسسة هي في ارتباط عضوي مع أهمية وظيفتها، فإن المحكمة الدستورية تتسم بكونها الوحيدة المخول لها مراقبة دستورية مشاريع القوانين من جميع الأطراف الحاكمة، وأيضاً تراقب المعاهدات والقوانين والنظام الداخلي للقوانين. وكي ندرك أهمية وظيفة المحكمة الدستورية يكفي الإشارة إلى أنها أعلى من الدستور، وهي الحافظة له والضامنة لحسن تطبيقه، من دون أن ننسى أن الدستور بشكل عام عادة ما يُعرف بأنه أعلى سلطة تشريعية، وأنه أعلى من كل القوانين والتشريعات. لذلك هناك دائماً حرص على التدقيق فيما يسمى بدستورية القوانين؛ إذ لا معنى لأي قانون لا يتماشى مع فصول الدستور وبنوده.
من ناحية أخرى، وكي نعرف الحاجة التونسية الأكيدة لتكون هذه المحكمة، فإن التجربة السياسية في تونس من تاريخ إقرار الدستور إلى اليوم، أي على امتداد قرابة السبع سنوات، أظهرت أن هذا الدستور ينطوي على ثغرات، وتنعدم الدقة في بعض البنود، وعدم وضوح البعض منها أيضاً. ولقد أشعلت هذه الثغرات جدلاً تشريعياً تباينت فيه قراءات المختصين في القانون، وهي تباينات تعكس أن بعض البنود قابلة للتأويل، خلافاً لما يقتضيه القانون من دقة ووضوح متناهيين.
قد نتساءل: ما الذي يربط بين الأزمة السياسية وإنشاء المحكمة الدستورية؟
في الحقيقة الرابط قوي جداً، لأن الأزمة السياسية التي انطلقت منذ أن رفض رئيس الدولة التحوير الوزاري الذي قام به رئيس الحكومة، وعبر عن رفضه من خلال منع أداء الوزراء اليمين الدستورية أمامه، كما ينص على ذلك الدستور، قبل تسلمهم الحقائب الوزارية، هو خلاف دستوري محض، ولو كانت المحكمة الدستورية موجودة لتم تجاوز هذه الأزمة، ولفرضت المحكمة قرارها على الجميع، خصوصاً أنه في ضوء غياب هذه المحكمة فإن رئيس الدولة هو المخول بحماية الدستور ومراقبته، وهو يقدم القراءة الدستورية التي يراها مناسبة، من دون أن ننسى أنّه في الأصل أستاذ جامعي مختص في القانون الدستوري.
من جهة أخرى، فمن الواضح أن بعض الأطراف السياسية الفاعلة بدأت تُدرك أنّها الخاسرة الأولى بغياب المحكمة الدستورية، وهو ما يؤكده التوصل إلى المصادقة على تنقيح القانون الدستوري للمحكمة الدستورية الأسبوع الماضي.
حالياً تنقيحات القانون الدستوري للمحكمة الدستوريةفوق طاولة رئيس الجمهورية، في انتظار الختم عليها: فهل الرئيس سيختم ليتم بعث المحكمة الدستورية أم أنه لن يفعل تخوفاً من أن تكون المحكمة تابعة لأحد الطرفين الحاكمين، ومن ثم تجد مؤسسة الرئاسة نفسها لا حول لها ولا قوة؛ باعتبار أن الدستور لا يمنحها من الصلاحيات إلا القليل، من منطلق كون النظام المعتمد في تونس حالياً هو النظام البرلماني؟
هناك حالة فوبيا من المحكمة الدستورية قبل إنشائها، وكل طرف يعتقد أنها ستكون ضده وستضعفه. بمعنى آخر، فإن الصراع السياسي انعكس على المحكمة الدستورية وبلغ حد شيطنتها قبل أن تُقام!