إن الحديث عن الفلسفة في المجتمعات العربية حديث يذهب بنا إلى منطقة موجعة في التاريخ وأيضاً يضعنا وجهاً لوجه أمام انعكاسات ذلك الوجع على حالنا في العالم اليوم.
طبعاً يمكن القول إن الفلسفة تعرف في اللحظة الزمنية الراهنة ارتباكاً وتكلساً على مستوى العالم، ويظهر هذا الارتباك في أسئلة كثيرة تُطرح في بلدان ذات عراقة في العلاقة بالفلسفة، ومنها ما يتساءل: هل الفلسفة توقفت مع كانط وهيغل؟
ولكن يبدو لنا أن واقع أوروبا مع الفلسفة ليس واقع الفضاء العربي والإسلامي؛ فالمساران مختلفان ولكل فضاء ثقافي قصته مع الفلسفة. فالغرب استفاد من الإنتاجات الفلسفية ومثّلت العمود الفقري للثورة العلمية؛ ذلك أن الفلسفة هي أصل كل العلوم التي ظهرت سواء منها التجريبي ذو الصلة بعلوم الطبيعة أو تلك التي تندرج ضمن علوم الإنسان، وهو ما يفسر لنا حضور الفلسفة في الاختصاصات الجامعية كافة في أوروبا.
لا شك في أن فصل العلم عن الدين قد ساعد على تطور الفلسفة وظهور عصر الأنوار واستفادة أوروبا من مجموعة كبيرة من الفلاسفة الذين أحدثوا انقلاباً عميقاً في أوروبا وفي توجهها نحو التقدم ونحو تحرير الإنسان من كل الأبعاد التي يمكن أن تعطل إبداعه وأسئلته المطروحة بكل حرية، والذاهبة إلى جوهر الأشياء والتي تنطلق من مبدأ أن الحقيقة متغيرة ونسبية.
بالنسبة إلى العالم العربي الأمر مختلف تماماً. صحيح أننا عرفنا في تاريخنا نواة في الفلسفة، ولكنّ التجارب لم تسمح لها الثقافة العربية والإسلامية من التراكم ومن تحقيق رأسمال في مجال التفلسف. فكان الغالب على علاقتنا بالفلسفة ما تم تعريبه من إنتاجات الفلسفة اليونانية والألمانية والفرنسية بشكل خاص.
عرفنا في تاريخنا الفارابي وابن سينا. غير أن أبو حامد الغزالي استشعر الخطر فسارع إلى تأليف كتاب «تهافت الفلاسفة» فتغلغلت صورة تربط بين التفلسف والتهافت مع ما يعنيه معنى التهافت ذاته من نظرة سلبية.
وفهم الرسالة جيداً ومقاصدها في القرن الثاني عشر الفيلسوف ابن رشد الذي قام بالرد على كتاب الغزالي سواء في كتابه «فصل المقال» أو بأكثر وضوحاً ومباشراتية كتاب «تهافت التهافت».
وهنا نفهم كيف كان موقف الغزالي محدداً في التعامل مع الفلسفة ونكتشف أيضاً كيف بُنيت العلاقة مع الفلسفة على أساس الرفض الراديكالي من طرف علماء الكلام. وطبعاً مثل هذا الرفض مفهوم لأن النسق الثقافي العربي والإسلامي يعمل على تعزيز حقيقة واحدة مطلقة وثابتة، في حين أن جوهر التفلسف هو تنزيل كل الحقائق إلى طاولة السؤال والشك.
فالصراع بين علماء الكلام والفلاسفة في الفضاء الثقافي العربي والإسلامي كان دائماً لصالح علماء الدين، مما يعني أن هيمنة سلطة الخطاب الديني وهامشية الخطاب الفلسفي التي ظلت متواصلة إلى اليوم وبسبب تهميشنا للفلسفة فإننا اليوم على هامش الإنتاجات العلمية ومستهلكون سلبيين للعلم أكثر منه مساهمين ومنتجين.
ولعل تجربة ابن رشد هي المثال الأكثر وجعاً في تاريخ العلاقة بالفلسفة والفلاسفة، إذ تعرض لتهمة الإلحاد والنفي والأخطر هو حرق مؤلفاته مع ما يعنيه الحرق من رغبة في التخلص من الفلسفة وفي تحول مؤلفات ابن رشد إلى رماد وإلى دفن تجربة الرجل كأنّها لم تحدث.
وكي نفهم سر هذا الموقف الرافض للفلسفة، ولماذا كان مصير ابن رشد اتهامه بالإلحاد وحرق مؤلفاته، يكفي أن نطرح السؤال البسيط: إلى ماذا دعا ابن رشد في أطروحاته؟
باختصار شديد جوهر دعوة ابن رشد هو ضرورة إعمال العقل في الديني.
إن قراءة تاريخ علاقتنا بالفلسفة وملاحظة منحنيات العلاقة يضعنا في أفق رحب من الفهم والتفسير. وربما بعد ما عرفناه خلال السنوات الأخيرة من صعود ونزول للإسلام السياسي وتم تكوين تجربة معاصرة مع تصورهم الشمولي للحياة، قد آن الأوان للمصالحة مع الفلسفة وتجاوز ظاهرة القطيعة المتغلغلة في النسق الثقافي العربي والإسلامي. فالفلسفة هي التي ستمنح العقل العربي الثّقة في إمكانياته وستأخذه من ذهنية الأجوبة الثابتة الصلبة إلى ثقافة السؤال والنسبيّة والتعددية في الحقيقة.
ونعتقد في هذا المعنى أن من المؤسسات الجديرة بالتربية والتنشئة على التفلسف هي المدرسة، وإذا ما تم استيعاب دور مؤسسة المدرسة في غرس ثقافة السؤال والتفلسف فإن ذاك يعد ثورة حقيقية.
غير أن الملاحَظ هو أن المدرسة في بلداننا تقوم على بيداغوجية التلقين ولا تعي أهمية الفلسفة ويدرسها التلاميذ في مرحلة الشباب، والحال أن تعلم التفلسف ينطلق من الصغر كي يصاغ عقل الطفل ويسير على نهج السؤال والشك وتجاوز نسق الحقائق الثابتة الجامدة.