بقلم : د. آمال موسى
بعد تفعيل الرئيس التونسي قيس سعيد للفصل 80 والتفاعل الشعبي الواسع مع تدابيره الاستثنائية، فليس لحركة «النهضة» ولا للبرلمان ولا لبقية الأحزاب العودة إلى ما كانت عليه قبل 25 يوليو (تموز) الماضي، بل أكاد أقول إن الرئيس قيس سعيد نفسه لا يستطيع أن يكون في نقاط عدّة مفصلية وعميقة مثلما كان قبل خطوته التي مضت نحو تصحيح مسار الانتقال الديمقراطي في تونس.الآن كل الاهتمام الرئاسي يركز على مشاغل التونسيين اليومية ومحاولة معالجة ما يمكن أن يخفف من غلاء المعيشة من جهة والقيام بمتابعة دقيقة لملف جائحة «كورونا» من أجل تلقيح أكبر عدد ممكن من التونسيين، خاصة بعد تفاعل المجتمع الدولي مع تونس وإسعافها بالتلاقيح من جهة ثانية.
في مقابل ذلك، هناك تساؤلات حول خريطة الطريق التونسيّة بعد تجميد مجلس النواب ورفع الحصانة عن نوابه وأيضاً السقف الزمني لعودة المؤسسات وهل سيتم التمديد في مدة التجميد أم أنه سيتم انتظار نتائج ما ستسفر عنه التحقيقيات حول مسألة تمويل الأحزاب، وذلك على أساس ما تضمنه تقرير دائرة المحاسبات في تونس من انتهاكات واضحة، وفي صورة أكدها القضاء، فإن الأحزاب وعلى رأسها حركة النهضة قد تجد نفسها مهددة بالحلّ. أسئلة كثيرة مطروحة والإجابات عبارة عن عناوين، لا عن خريطة طريق دقيقة الأركان والخطوات. وهو أمر قد يعود إلى أن هناك خريطة أخرى مطلوب من الرئيس قيس سعيد رسمها تزامناً مع رسم خريطة طريق للتونسيين.
فما الخريطة الأخرى التوأم لخريطة الطريق التي ينتظرها التونسيون؟
إذا اتفقنا على استنتاج أن ما حصل يوم 25 يوليو الماضي هو رد فعل دفاعي من الدولة ومؤسساتها وفق منظور الدولة الوطنية، فإن ذلك يعني آلياً أن أولويّات الدولة الوطنية التونسية ومصالحها هي التي لحق بها الخطر الداهم الذي يتحدث عنه الفصل 80. وبناء عليه، فإن خريطة الطريق هي رد الاعتبار للأولويات الوطنية في تونس التي بالنظر إلى تكلس ملف التنمية والإخفاقات الاقتصادية والمالية، فإنها كانت – أي الأولويات الوطنية - مستبعدة وثانوية في سلم اهتمامات البرلمان والحكومة التونسيتين. وكون الأولويات التونسية خلال العشرية المنقضية هي اقتصادية بالأساس، وأولاً وأخيراً، وهو ما عبرت عنه الشعارات التي رفعتها الثورة التونسية في 14 يناير (كانون الثاني) 2011 فإن الإهمال المشار إليه من الطبقة السياسية ما قبل التجميد يصبح مضاعفاً ومليئاً بالمعاني.
إذن كخطوة أولى، فإن المنتظر الآن تحديد الأولويات الوطنية ذات الطابع الاقتصادي، وهي خطوة مفتاحية، عن طريقها يتم تحديد الخطوة المهمة، وهي تحديد هوية الدول الحليفة لتونس ما بعد 25 يوليو.
نعم، هنا مربط الفرس. فلا يستطيع الرئيس قيس سعيد أن يظل في موقف المحايد دولياً كما كان. ولا يمكن في زمن الدبلوماسية المكشوفة اليوم أن يطبق نظرية بورقيبة في أن تكون تونس صديقة الجميع، ولها نفس مسافة الحياد من جميع الدول. فالمصلحة الوطنية تقتضي أن تكون مع من يخدم الأولويات الوطنية، وهذا أقصى ما يمكن أن يقوم به أي رئيس دولة في العالم اليوم. لم يعد ممكناً الحياد. العالم مقسم إلى محاور. هناك محاور يمكن أن تمارس معها إلى حين الضرورة شكلاً من أشكال المسافة، وفي الوقت نفسه هناك محاور لا مفر من اختيار واحد منها.. وكل الوطنية تكمن في اختيار الحلف أو المحور الذي تتقاطع معه مصالح الدولة الوطنية، وإذ نركز على هذه النقطة فلسببين اثنين؛ أولهما يعود إلى أن الرئيس قيس سعيد قضى نحو سنة ونصف السنة في حالة حياد بحكم تواضع الصلاحيات التي حددها له الدستور، إضافة إلى ما يكشف عنه طبعه من حذر وحرص على أن يكون «نظيفاً جداً» في العلاقات. ولكن بعد تاريخ 25 يوليو أصبح لزاماً على الرئيس التونسي أن يتغير في اتجاه الاستجابة لمقتضيات السياسة الدولية القائمة على التحالفات، ناهيك أنه لن يتحالف من أجل التحالف، بل لأن الأولويات الوطنية تحتاج إلى الدعم المالي والاقتصادي، وتونس في وضع صعب مالياً ولديها قروض لا بد من تسديد أكثر ما يمكن منها، إضافة إلى ما تحتاجه من دعم للسير في طريق خلق الثروة وتحريك عجلة الاستثمار. وهنا التجربة المصرية تعد مثالاً ناجحاً في الربط بين أولويات الدولة المصرية وتحالفاتها في المنطقة والعالم.
في هذه النقطة تحديداً، فإن الرئيس قيس سعيد أمام امتحان الربط بين الحلف الذي سينضم إليه علناً وبكل وضوح، ومدى توفقه في اختيار الحلف الذي يخدم الأولويات التونسية ويدعمها. والوضوح هنا ستعتمده الدول التي أعلنت وقوفها إلى جانب تونس للإيفاء بوعودها.
أما السبب الثاني وراء التركيز على مسألة الربط بين الأولويات الوطنية وتحديد الحلف الذي يهم تونس، فهو أن هذه النقطة تمثل أهم إخفاقات الإسلام السياسي سواء في مصر في مرحلة حكم مرسي أو في تونس في حكم حركة النهضة حيث أجندات الحلف قبل الأولويات الوطنية.فالمشكل ليس في أن تكون ضمن تحالفات مع دول بعينها، بل في إقصاء الأولويات الوطنية وخدمة أجندة تحالفات لا ارتباط بينها وبين الأولويات الوطنية.