صحيح أن العالم أصبح قرية ومتشابك الروافد والتبادلات، ولا يمكن لأي دولة مهما كانت غنية وقوية أن تستغني عن كل العالم وتعيش في انغلاق وعزلة.
بل إنه لا شك أن العلاقات بين الدول مهمة للغاية للتبادل في مجال الخبرات والتجارة والثقافة، وغير ذلك من آفاق التعاون والتفاعلية.
ولكن إلى جانب ذلك، فإن هذه الفكرة التي سمحت بتأويلات شتى لا يمكن أن تفند حقيقة مركزية تتمثل في أن التعويل على الذات هو الأصل والجوهر والأساس، والانفتاح والأخذ من الغير والتبادل معه هي تندرج في بوابة الإثراء. فالذي ينطبق على الفرد الواحد ينطبق أيضاً على الشعوب والدول؛ التعويل على الذات طريق للنجاح، ولن يساعدك أحد إلا إذا عوّلت على ذاتك، واكتسبت جدارة الدعم.
هذه الديباجة أردناها مدخلاً للحديث عن ضرورة تعويل العالم العربي والمجتمعات العربية على نفسها، ولا تغتر بشعارات عالمية لا تثبت صدقيتها إلا مع الأقوياء والأغنياء.
ويكفي في هذا الصدد أن نعاين وضع أهالي غزة، وما يحدث للأطفال والنساء، وكيف يموت الأطفال الفلسطينيون العرب أمام أنظار الجميع، وإسرائيل غير عابئة بكل التنديدات، ومواصلة في عربدتها وتهديداتها، ووصل بها الأمر إلى أن تعلن أنها ستتكفل بتوزيع المساعدات للفلسطينيين؛ أي أن الذين يقتلون الأطفال والنساء وأوجعوا الأسر في فلذات أكبادهم، وقضوا على أسر عدة، هم من سيتكفلون بتوزيع المساعدات الإنسانية!
إنه منتهى الاستفزاز للعالم العربي ومنتهى الاستقواء.
ورأينا أيضاً من خلال تجربة الحرب على غزة كيف أن المنظمات الأممية مهما كانت «أممية» فإنها في الملف الإسرائيلي ليست ذات نفوذ، ولا يمكن التعويل عليها لنصرة أهم قضية في العالم العربي وهي القضية الفلسطينية.
من المهم وضع النقاط على الحروف، وربط الفكرة بأخرى، حيث إن الفكرة الأولى هي أن القضية الفلسطينية مرتبطة بكل واقع العالم العربي، وهي المحرار الذي من خلاله يحدد العالم علاقته بنا ومدى دعمه لنا. وتتمثل الفكرة الثانية في أن الرهان على أطراف معينة لن يجدي نفعاً؛ لأن موازين القوى تخضع إلى هيمنة إسرائيل والداعمين لها في الأخطاء والجرائم، وهو دعم ليس لغوياً وشعاراتياً، بل هو دعم تُستخدم فيه الآليات الدولية للعقاب.
إذن، من عقود والدرس نفسه يتكرر بطرق شتى. تجارب عدة والخلاصة واحدة: لا بد من التعويل على الذات وامتلاك أسباب القوة لكي يحسب العالم لكل قطرة دم عربية ألف حساب.
مر الآن نحو ربع قرن ونحن في هذه الألفية الجديدة والأوضاع في تراجع، خاصة ترابطها مع تداعيات الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. ومن هذا المنطلق، فإن اللحظة التي يعرفها العالم العربي والتي تتميز بالتعقيد الشديد في حاجة إلى تقييم تاريخي موضوعي، وعقلاني، وشجاع، وصريح.
هناك غياب لبوصلة وتصور لأنفسنا وفهم لمعوقاتنا، ولن نصنع هذا الفهم ونبلغه دفعة واحدة، ولكن بالإمكان مسك رأس الخيط والانطلاق منه، خاصة أن هذا الخيط المتمثل في التعويل على الذات يمثل في حد ذاته مساراً تتخلله إضاءات تجعل من الرؤية أكثر صفاء على مراحل.
لذلك، فإن التركيز على فكرة التعويل على الذات مسألة مهمة جداً لاستحثاث قدرات الذات وإمكانياتها والانطلاق في تحقيق الذات. ولعل الرهان على ما وهبتنا إياه الطبيعة، إضافة إلى العمل على ضمان الأمن الغذائي وإيلاء الرأسمال البشري مكانته العليا... كل هذا يمثل الأضلاع الأساسية لبلوغ هدف التعويل.
إن التعويل على الذات خلاصةُ تجارب متراكمة، وهو أيضاً ثقافة ونمط حياة. وليست مبالغة إذا قلنا إنه أول دروس الطبيعة للإنسان، وأول دروس الغابة التي تشبه العالم إلى حد كبير. ففي الغابة كل الكائنات الحيّة تعول على ذواتها، ولكل كائن سر من أسرار القوة.
إن الجولة الأولى في معركة التعويل على الذات هي كسب رهان القوت وعدم الحاجة، وقدرة كل دولة على تأمين الغذاء لشعبها. فعلاً السيادة تبدأ من قتل غول الجوع.
ولا يفوتنا أن مجتمعاتنا في حاجة إلى رتق العلاقة بالعمل والتعاطي معه بوصفه قيمة مقدسة، وأن التقدم السليم وتحقيق الذات، بوصفنا مجتمعات، لا يكونان بالكسل والتراخي، وإنما ببذل الجهد والإبداع. فالمجتمعات التي تعمل وتكدّ لا مشكلة لها في إيجاد الحلول، ولا في مواجهة الصعاب.
إننا فعلاً في حاجة إلى التعويل على الذات، أفراداً وشعوباً ودولاً، وفي حاجة أكبر إلى نقل ثقافة التعويل على الذات إلى الأجيال القادمة.