د. آمال موسى
ارتأينا إيثار توصيف «الخمرة» على التعبير الأكثر تداولاً في العادة «شهوة الحكم»؛ لأن حال الإسلام السياسي في الفضاء العربي - الإسلامي تجاوز باب الشهوة الحلم والرّغبة في الحكم والطموح إليه إلى ممارسته فعلياً في الحكم وليس في المعارضة فقط. حصل هذا بشكل واضح وعن طريق صناديق الاقتراع واللعبة الديمقراطية في العشرية الأخيرة في بلدين اثنين أساساً هما تونس ومصر، وتمّ ذلك في سياق أسهم ممثلو الإسلام السياسي في البلدين المذكورين في توصيفه: الربيع العربي.
إذن، بفضل الحراك الشعبي سواء في تونس أو مصر تمكن الإسلام السياسي من الاستجابة لشهوة الحكم واحتساء خمرة الحكم، وهذا ليس لأن الحكم خمرة، بل لأن هناك ممارسات مختلفة للحكم؛ هناك من يمارسه بيقظة وعقل وهناك من يغرق في بريق الحكم ويصبح مخموراً ضعيف الانتباه ولا يلتقط الرسائل. والجامع بين الخمرة والحكم هنا هو حالة ذهاب العقل. فالخمرة تُذهب العقل والحكم لدى البعض يُذهب العقل ويأخذهم نحو العربدة.
طبعاً لا يفوتنا أن نسجل اختطاف حركات الإسلام السياسي للثورات العربية، وهو نظرياً ليس عيباً التقاط اللحظة والدخول على الخط والمشاركة في الأفق السياسي الجديد، ولكنه يصبح عيباً كبيراً عندما تكون الثورة مطيّة ويقع استعمالها لغير الأهداف التي ثار من أجلها الشعب وهي في المثال التونسي: شغل وكرامة وحرية. وللملاحظة لا يمكن الاستجابة لواحد من هذه المطالب دون المطلبين الآخرين لأنّهما في حالة ارتباط عضوي؛ فإما استجابة وإما فشل في الاستجابة.
بالنسبة إلى الإسلام السياسي التونسي وممثله الأكبر حركة «النهضة»، فإن اللجوء إلى تفعيل الفصل 80 يعد دليلاً ملموساً على الإخفاق؛ لأنه تعاطى مع الحكم بوصفه خمرة تُذهب العقل. لماذا نركز على ذهاب العقل في مثال الإسلام التونسي وما آل إليه وضعه ووضع البلاد بعد عشرية كاملة وصولاً إلى قرارات رئيس الجمهورية التونسي قيس سعيّد يوم 25 يوليو (تموز) الماضي؟
أولاً، هناك حقيقة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الشعب التونسي خصّ حركة «النهضة» بعد تاريخ أحداث 14 يناير (كانون الثاني) 2011 بمعاملة سياسيّة خاصة جداً، وسلّمها ثقته وراهن عليها، وأراد أن ينتقم من مرحلة نظام بن علي باختيارها وانتخابها والرّهان على فكرة أن الإسلاميين «يخافون الله»، وهي الجملة التي كانت متداولة عند فئات تونسية عدّة. وإذ استحضر هذا التفصيل فكي نتفق على أن التونسيين منحوا حركة النهضة الأغلبية النسبية في انتخابات المجلس القومي التأسيسي وذلك 89 مقعداً من مجموع 217 مقعداً نيابياً. وللعلم، فإن الأصوات التي تحصلت عليها حركة النهضة آنذاك ليست كلّها من قواعدها فقط، بل تم انتخابها من أصوات غير «نهضوية». كما أضيف أن هذه الأصوات في انتخابات مجلس دوره كتابة دستور تونس ما بعد الثورة وهو دليل ثقة مضاعفة. ومرّد هذه الثقة يعود إلى تمثلات أخلاقويّة لكل ما يمكن أن يرتبط بالدّيني كمصدر من مصادر القيم والأخلاق.
المشكل أن حركة النهضة قد أذهبَ فوزها بالأغلبية النّسبية في 2011 البعض من عقلها ولم تعر لمسألة المصداقية الاهتمام اللازم. كل التركيز كان على المشروعية السياسية بمعنى الفوز الانتخابي، وتم إهمال أن الفوز هو من أجل الحكم، والحكم هو بهدف إشباع توقعات الناخبين وتحقيق مطالبهم في الشغل والتنمية والكرامة. خيّرت حركة النهضة ممارسة السياسة من خارج توقعات ناخبيها وتمثلاتهم لها، فانجرفت في التوافقات الهزيلة الأساس والمناورات المكشوفة والتناقض المفضوح في المواقف وأخطر المواقف المتناقضة إعلانها في حملتها الانتخابية في انتخابات 2019 استحالة وضع يدها في يد حزب «قلب تونس» لصاحبه نبيل القروي، ولكن بعد نتائج الانتخابات كان التوافق بينهما وهو الحزب الذي ساندها كي تتمكن «النهضة» من رئاسة مجلس النواب.
خمرة الحكم لم تجعل حركة النهضة تنتبه إلى خطورة عدم الإيفاء بالوعود وما يفعله ذلك من تهرئة للصورة الذهنية. بل إنّ الحركة لم تلتقط الكثير من الرسائل، وهو ما يؤكد عندنا ظاهرة ذهاب العقل حتى التكتيكي منه من أجل الحفاظ على وجود الحركة. ومن هذه الرسائل التراجع المستمر والكبير لعدد الأصوات التي انتخبت حركة النهضة، ولو أردنا القيام برسم بياني سنرى الانحدار المتواصل للخط البياني من انتخابات 2011 إلى انتخابات 2019، حيث إن الحركة فازت كما أسلفنا القول في انتخابات 2011 بـ89 مقعداً في البرلمان، وفي انتخابات 2014 انخفض عدد المقاعد إلى حدود 69 مقعداً وصولاً إلى 52 مقعداً في انتخابات 2019، إضافة إلى ضعف شعبية الحركة وقياداتها في عمليّات سبر الآراء. ولكن خمرة الحكم وذهاب العقل على مراحل لدى الحركة منعها من رؤية الضوء الأحمر مراراً، ومن فك شفرات رسائل الناخبين الذين استرجعوا أصواتهم شيئاً فشيئاً.
أما الإشارة التي أعلنت ذهاب العقل تماماً عن الحركة، فهي عندما وجه رئيس مجلس الشورى تهديداً لرئيس الحكومة بضرورة دفع التعويضات للمناضلين وتونس في قلب الحرب على «كورونا» وتساقط أرواح التونسيين وفي لحظة اختناق واللهث وراء كيفية تأمين الأكسجين وتذكير المحللين الاقتصاديين بتصنيف تونس الهزيل في الدوائر المالية التونسيّة.
الأجل الذي حدّده رئيس مجلس حركة الشورى السيّد الهاروني كان يوم 25 يوليو الماضي. يومها كان المفروض تاريخ احتفال تونس بعيد الجمهورية، ولكنّه بفعل تراكمات مسيرة ذهاب العقل والقطرة التي أفاضت الكأس - أي ملف التعويضات - كان يوم تفعيل الفصل 80 من الدستور والذهاب في التأويل إلى حدّ تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإعفاء رئيس الحكومة.
الخلاصة الأولى بعد تجربة التونسيين مع الإسلام السياسي بما في ذلك جزء من المنتسبين للحركة، هي فشلهم في الحكم وإيثارهم العناد السياسي على التوافق الحقيقي وإشباع توقعات التونسيين في الشغل والكرامة. ولكن هناك أسئلة جوهرية تنتظر التفكير والانتباه، منها أن الإسلام السياسي فشل في الحكم كما فشلت غيره من الأحزاب غير الإسلامية. والتهم الموجهة إليه يتشارك فيها مع أحزاب أخرى، أي أنه سقط سياسياً ولم يسقط كمشروع وكآيديولوجيا. فالإسلام السياسي ومن خلال تجربة حكمه في تونس لاحظنا أنه عندما يتسلم الحكم يترك الآيديولوجيا جانباً (إعلان الفصل بين الدعوي والسياسي) وينخرط في مزايدة مع النخب الحداثية لضمان المشاركة وحسن التفاوض الاجتماعي السياسي، وينشغل بتطبيق سياسة يحرص فيها على إظهار الدهاء والمناورة والتسييس في كل ما يضمن له أن يكون الأقوى في لعبة الحكم والماسك بمقاليد إدارة اللعبة... غير أن ما يحرص على تطبيقه وإظهاره يسحب منه جزءاً من البساط.
الخلاصة الثانية: القول بفشله سياسياً ليس كالقول بسقوطه آيديولوجياً.