بقلم - آمال موسى
أصبحت كلمة «الإدماج» من الكلمات الأكثر تداولاً اليوم في الخطابات السياسية وفي وسائل الإعلام وفي الخطط التنموية الوطنية أو الإقليمية والدوليّة. والملاحَظ أنها من الكلمات والمفاهيم القليلة التي تجمع في الوقت نفسه بين وظيفتي الهدف والآلية، أي أن الهدف من الإدماج هو الاندماج.
أيضاً نشير إلى أن مفهوم الإدماج الذي تسلل بقوة إلى الخطاب والقاموس المتداول في شتى أشكال الاتصال ومضامينه، إنّما هو مفهوم ينتمي إلى حقل فكري بامتياز وتحديداً إلى الحقل السوسيولوجي وصاحبه عالم الاجتماع الشهير الفرنسي إميل دوركايم الذي عُرف بدوره الكبير في إثراء معجم علم الاجتماع بمفاهيم غنية وبأطروحاته التي لا تزال ذات أهمية على غرار كتابه حول العناصر الأساسيّة للحياة الدينية أو دراسته الشهيرة حول ظاهرة الانتحار.
ما يعنينا في هذا السياق هو أن مفهوم الإدماج لم يعد استعماله مقتصراً على البحوث العلمية الفكرية، بل إنّه صار من المفاهيم الرائجة والمفهومة على نطاق واسع ومشاريع كثيرة تحمل هذا المفهوم اسماً لها.
فالعالم كله بفقرائه وأغنيائه والمتقدم منه والمتخلف والسائر في طريق النمو؛ الجميع من دون استثناء يرفع الإدماج سياسة وتصوراً مجتمعياً ومشروعاً للإصلاح ولدمج الفئات الموصوفة بالهشة. ذلك أن الإدماج يرتبط دائماً بالفئات الهشة والضعيفة أو بالأقليّات. فالبلدان ترسم مخططات تنمويّة من أجل إدماج الفقراء وضعفاء الحال، وإدماج المرأة في الاقتصاد وفي المشاركة السياسيّة، وإدماج الشباب المعطل عن العمل، وإدماج الأطفال فاقدي السند، وإدماج ذوي الحاجيات الخصوصية... وإدماج المهاجرين، وإدماج الأقليات، وأخيراً إدماج الجاليات...
إذن كما نلاحظ فإن المعنيّ بالإدماج هو من تتوفر فيه وضعية هشاشة.
ومن المهم أيضاً التوقف عند نقطة مهمة جداً، وهي أن الإدماج ليس ترفاً وليس من الأخلاقيات والنظرة المثالية للمجتمعات. فتكلفة عدم الاندماج الباهظة على الأصعدة كافة، جرّت العالم والدول جراً إلى الاقتناع والرضوخ لضرورة الإدماج.
فالدولة الغنية المتقدمة التي لا تعير اهتماماً للمهاجرين ولا تضع خطة إدماج تراعي ما تجب مراعاته، إنما تفتح في قلب المجتمع ومؤسساته وعلاقاته وابلاً من المشكلات والتوترات والاعتداءات التي تتطور مع أجيال المهاجرين، فيتحولون إلى مصدر عنف وربما إرهاب باعتبار أنهم يرون أنفسهم بحكم عدم التفكير في إدماجهم وتسهيل مسار إدماجهم نوعاً من التعنيف غير المباشر.
من جهة أخرى، فإن البلدان السائرة في طريق النمو، ومنها جزء كبير من بلدان العالم العربي، لا تستطيع اليوم مجابهة التحديات الكثيرة الكبيرة إلا برفع شعار الإدماج خطاباً وأفعالاً وقوانين وسياسات اجتماعيّة. وهنا نسجل الطابع الحتمي للإدماج وكل تأخير لإدماج الفئات الهشة هو ترفيع للخسائر وإطالة للاغتراب الاجتماعي، الذي ينتج عنه الاحتقان واستفحاله. من ذلك أن الحديث اليوم عن إدماج الأسر الضعيفة الدخل أو ذات العائل الواحد إنّما هو في حقيقة الأمر إدماج مركب ومتعدد الفئات؛ إذ يتضمن آلياً إدماج الطفل الفقير وحمايته من الانحراف عن الأطر الاجتماعية والمسار الطبيعي لأي طفل المتمثل في التحصيل الدراسي وفي استئناف العمل في السن القانونية، أي بعد أن يتجاوز مرحلة الطفولة.
وهنا نشير إلى ما تمثله ظاهرة عمل الأطفال مثلاً من مشكل اجتماعي خطير، حيث تشير الدراسات إلى طفل من بين عشرة أطفال في جميع أنحاء العالم في سوق العمل وأن قرابة نصف الأطفال العاملين يمتهنون أعمالاً خطرة. وفي عالمنا العربي نجد أن قرابة مليوني طفل يعملون رغم أن الاتفاقيات الدولية والقوانين تمنع ذلك. وطبعاً لا شك في أن ما يجعل هذا الرقم الضخم في العالم من الأطفال يعمل مبكراً وفي ظروف قاسية وغير قانونية وخطرة على صحته ونموه الجسدي، هو الفقر ولا شيء غير الفقر، مما يعني أنّ الحائل دون الاندماج الاجتماعي اليوم إنما يعود نصيب الأسد من الأسباب فيه إلى السبب الاقتصادي، أي أن الهشاشة المقصودة هي التي ترتبط أساساً بالوضعية الاقتصادية، ثم تأتي الإعاقة ثم الانتماء الجنسي الذي ما زال يمثل ضرباً آخر من الهشاشة.
ولكنّ الإقرار بأن هشاشة المعنيين بالإدماج يهيمن عليها البعد الاقتصادي ينطوي على إقرار آخر مفاده هو أن الإدماج يشترط أموالاً واعتمادات في المقام الأول وفي المدى السريع، وهو ما يفسر لنا صعوبات الإدماج ولماذا هناك تعثرات في مسارات الإدماج رغم معناه الإيجابي واتفاق الجميع على جدواه وضرورته.
لذلك فإن الإدماج يحتاج إلى حصة مهمة في ميزانيات الدول كافة لأنه بطبيعته مكلّف، مع العلم أن تكلفة غيابه التام أكثر مرات مقارنةً بالشروع في عملية الإدماج ذاته.
طبعاً التركيز على الشق الاقتصادي في عملية الإدماج لا يعني تغييب عاملين أساسيين هما: العامل الثقافي وعامل التشريعات المساعدة لإدماج الفئات الهشة. ويتغير ترتيب الأبعاد الاقتصادية والثقافية والقانونية من عملية إدماج إلى أخرى وأحياناً نجد أن هذه الأبعاد الثلاثة غير قابلة للترتيب ومتساوية الأهمية كعملية إدماج المهاجرين مثلاً.
إنّ إدماج الفئات الهشة التي تعاني من مظاهر الاغتراب والإقصاء يعني ببساطة شديدة التفكير السليم في بناء التعايش المشترك.