بقلم - آمال موسى
هناك شيء يسمى الاستثمار في رأس المال البشري به تتمايز البلدان وتقيَّم سياسات الدول. بمعنى آخر فإن نجاح أي مشروع دولة يحدَّد بتقويم المنجَز في مجال الإنسان وإلى أي حد هناك رهان جدي وحقيقي حول رأس المال البشري في أي بلد من البلدان. قد يبدو مثل هذا الكلام مغرقاً في المثالية، ولكن بشيء من التمعن والتجرد سنجد أن الإنسان هو في النهاية المحور الأساسي للتنمية والسياسات، وكل ما ينجَز هو على الأقل نظرياً لفائدة رأس المال البشري.
لذلك فإن الدولة هي أكثر طرف معنيّ ومن واجبها الاهتمام برأس المال البشري، لا سيما أن القطاع الخاص يهتم بالربح أساساً والقيمة الربحية هي الهاجس الأول والأخير لأي مشروع خاص.
ومن هذا المنطلق فإن الاستثمار في الإنسان وفي المواطن الفرد وفي الأسرة وفي الأطفال وفي النساء، إنما هو شأن الدول قبل القطاعات الخاصة، ومن الخطأ التفريط في هذا الشأن لأنه مصدر مشروعية أصحاب القرار ومن المهم والأساسي أن يكون في سلم الأولويات.
فالحديث عن الاستثمار في رأس المال البشري يعني الاستثمار في الصحة والتعليم والثقافة، وهي مجالات تشكيل الإنسان ورأس المال البشري بشكل عام على نحو يجعل منه جوهر التنمية وأساسها وهدفها.
وتتقاطع هذه الرؤية مع الخطة الأممية للتنمية المستدامة التي تدور حول الجملة المفتاح والشهيرة «لا نترك أحداً خلف الركب».
طبعاً لا تفوتنا الإشارة إلى أن الاستثمار في رأس المال البشري مكلف مادياً جداً ويتطلب إيماناً عميقاً بأهمية التربية والصحة والثقافة وبتصور متعدد الأبعاد للربح. ذلك أن الاستثمار في التربية بمختلف مراحلها يعني العمل على إنتاج مواطنين أكفاء وأذكياء لأن العمل كقيمة أساسية لا يؤتي أُكله إلا بالعقل، والتربية تعني الرهان على العقل وقدراته. فلا يمكن توقع التقدم والتنمية والرخاء ونسب الأمية مرتفعة، ولا يمكن بناء إنسان قادر على الإبداع من دون توفير الأطر القادرة على تأمين التربية السليمة وتحفيز المهارات والكفاءات وصنع إنسان قادر على إنتاج الأفكار والحلول والإبداع علمياً. فاليوم مسألة التعليم أساسيّة لقياس التطور والتقدم ولم يعد مقبولاً وجود أفراد لا يمتلكون القدرة على القراءة. بل إن الرهان اليوم على محاربة أشكال جديدة من الأمية على غرار الأمية الرقمية والأمية في مجال امتلاك اللغات وغير ذلك.
كما أن الرهان على التربية قد اختلف اليوم عن الرهان في الستينات والسبعينات من القرن الماضي؛ إذ في تلك العقود كانت المدرسة هي الهاجس ولا شيء غير المدرسة، في حين أن الواقع اليوم أصبح يتناول مسألة في غاية الأهمية تتمثل في التربية ما قبل المدرسة، أي مرحلة رياض الأطفال، وهي مرحلة أصبحت ذات صلة بالمدرسة وأساسية بشكل أصبح فيه التحصيل الدراسي للمدرسة يضع في اعتباره التربية ما قبل المدرسة في تحديد المضامين التربوية للمرحلة الابتدائية. وأظهرت دراسات عدة أن الأطفال الذين لا يتمتعون بالتربية ما قبل المدرسة هم الأكثر عُرضة للانقطاع المبكر عن الدراسة والرسوب. وإذا ما تم ترك هذه المرحلة للقطاع الخاص فإن النتيجة ستكون صادمة جداً باعتبار أن رياض الأطفال الخاصة مكلفة وليست في متناول جميع الأسر، لا سيما بعد ما أظهرته الأزمات وعلى رأسها جائحة «كوفيد - 19» من هشاشة ومن ارتفاع معدلات الفقر في كثير من البلدان ومن ارتفاع عدد الأطفال الفقراء. وإذ نركز على هذه النقطة فذاك يعود إلى أهمية هذه التربية وارتباطها بمستقبل الطفل الدراسي.
أيضاً التنمية والتقدم والرخاء، كل هذا يحتاج إلى جسد سليم من ناحية وإلى بنية تحتية تتعلق بالمستشفيات ومرافق الصحة، وأيضاً هذه البنية التحتية أصبحت اليوم مكلفة جداً.
إن الاستثمار في رأس المال البشري يحتم محاربة الفقر لأن الفقر يجعل غالبية السكان من مشمولات الدولة ولا يستطيعون تأمين حاجيات التربية والصحة والثقافة من دون مساندة الدولة. وفي الوقت نفسه وكما نعلم فإن الدولة اليوم باتت أقل قدرة في أداء الدور الاجتماعي الأمر الذي يجعل من وضع محاربة الفقر هدفاً استراتيجياً مسألة ذات أولوية لأن رفع يد الدولة لن يكون إلا بالتخفيض من الفقر والقضاء عليه، حيث إنه ساعتها يمكن للفرد أن يعوّل على نفسه والاستفادة من خدمات القطاع الخاص التي هي خدمات بمقابل.
لذلك فإن الدولة الأقل عبئاً اليوم هي التي أنهت حربها ضد الجهل والأمية والفقر، وما دامت هذه الحرب في أوجها في بلدان عدة فإنه لا خيار غير الضغط على الموارد وترتيب الأولويات بشكل يجعل من الاستثمار في رأس المال البشري هو الأول.
إن استيفاء مرحلة الاستثمار العمومي في الإنسان هي التي تفتح الباب للاستثمار الذي يليه وإذا ما حصل القفز والتفريط في واجب الاستثمار في رأس المال البشري فإن ما يتم إنجازه سيهدمه الجهل والأمية واحتقان الفقر اليائس.