التاريخ والفكر سوريا بين تزويرين

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

المغرب اليوم -

التاريخ والفكر سوريا بين تزويرين

عبدالله بن بجاد العتيبي
بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

لا يجادل عاقلٌ فضلاً عن سياسيٍ أو مثقفٍ في أن تزوير التاريخ واحدٌ من أسس بلاء الأمم وأسباب انحدارها وتخلفها، وتزوير التاريخ له معانٍ متعددةٍ: منها الكذب الصراح المبني على الخرافة والآيديولوجيا والميثولوجيا، ومنها المقولة المشهورة: إن التاريخ يكتبه المنتصر، بمعنى أنه يزوّره ليكون كما يحب، ومنها المقولة المعاكسة التي تركز على الهوامش لا المتن في تواريخ الدول والشعوب والمجتمعات.

في منطقتنا جرت محاولات كثيرةٌ لاستخدام الأسماء الغربية في تسمية الأحزاب والجماعات، وتوظيف المفاهيم الغربية التي تستخدم للتوصيف والتحليل، وقد تم استخدام عشرات المفاهيم الغربية في فتراتٍ متباعدةٍ ومن أطرافٍ متناقضةٍ، ولكن بمعان لا تطابق الأصل وإن اختلفت تلك الأطراف في طرق التزوير وإعادة بناء المفاهيم مجدداً، وهذا تضليل.

حزب البعث الحاكم في سوريا منذ أكثر من خمسة عقودٍ تحوّل عبر مسيرته الطويلة إلى حزب الطائفة والأقلية، الديكتاتوري الشرس، وقد أفرغ هذا التحول «حزب البعث» من اسمه الأصلي ومن المعنى الذي بني عليه في الأساس، ولم يتبق منه عبر عقودٍ إلا أسماء جزئية ومفاهيم عائمة من القومية العربية والقطر السوري، وذلك قبل أن يتحول إلى حكم العائلة المعتمد على «توحش الأقليات»، وأصبح حكم حزب البعث عائلياً وراثياً على طريقة «الجملوكية» أو الجمهوريات الملكية، التي لم تأخذ شيئاً من عظمة الملكيات إلا توريث أبناء العسكر الحكم، وهذا تزوير للفكر مع تزوير التاريخ.

أنظمة الحكم تصنع معارضتها، ومثل ما صنع «حزب البعث» في سوريا صنعت بعض الأحزاب في الدول العربية، وهي معروفة بأسمائها وغاياتها.

ويصح هذا وأكثر في المفاهيم الأكثر انتشاراً مثل «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«الحريات»، وكما صنع الأسد بها على مدى عقودٍ صنعت مثله «جماعة الإخوان المسلمين» والجماعات الأصولية، وكان أوضح مثالٍ على ذلك فترة حكم الجماعة في مصر بعد 2011، حيث اتضح أنها قد رفعت هذه المفاهيم لخداع الرأي العام الغربي بها لا أقل ولا أكثر، وقامت بعمليات تفسيرٍ حزبيةٍ فصّلتها لخدمة الجماعة، وتمت عمليةٌ كبرى لتزوير التاريخ وتزوير الفكر.

«نهاية الصحوة» خرافةٌ فكريةٌ انتشرت في السنوات الماضية، ثم تبيّن عوارها، وأن كل أحداث العالم ووقائعه تدل على تهافتها واقعياً وعلمياً وفكرياً، ومع الفرح الغامر بسقوط واحد من أبشع الأنظمة الديكتاتورية في العالم بأسره في القرن الأخير، يجب ألا ينسى المفكرون والباحثون والكتّاب خطورة القادم في المستقبل بناء على ثقافتهم ومعرفتهم ووعيهم وتحليلهم، لأن ذلك يمنح صانع القرار والمتابع المهتم زوايا أوسع للرؤية والتحليل.

طبيعة السياسي الانتظار والتريث وحسابات المصالح في المواقف والقرارات، وهذا ليس شأن الباحث والكاتب الذي هو على العكس من السياسي، يعبر عن رأيه بالأدلة والبراهين التي يمتلكها، فإن أصاب رفع رصيده لدى قرائه كباراً وصغاراً، وإن أخطأ تحمل خطأه وحده، لأنه إنما يعبر عن رأيه الشخصي، وهذا ما جرى على طول التاريخ وعرض الجغرافيا إلا في لحظات استثنائية في تاريخ البشرية، وفي التاريخ الحديث مع النازية والفاشية والبلشفية.

«الأولويات الأصولية» أخذت تطلّ برأسها مجدداً في سوريا، أفكاراً ومفاهيم، خطباً في الجامع الأموي وغيره، وخطاباتٍ سياسيةً وإعلاميةً وثقافيةً وفلسفية، ولئن بدأت وسائل الإعلام في التركيز على مظاهر عامةٍ وشكليات اجتماعية مثل حجاب المرأة والموقف من المشروبات الروحية أو الغناء ونحوه، فإن المشكلة أعمق من هذا بكثيرٍ وأشد خطراً على المستويات كافة.

ثلاثة صناديق ينبغي التركيز عليها في هذه المرحلة لفهم المشهد، صندوق الاقتراع المدعوم شكلياً من الدول الغربية، الذي احترفت كل الدول والجماعات الأصولية المعاصرة في التلاعب به بالتوافق مع داعميه الغربيين، وصندوق الرأس حيث تمّ التلاعب به على مدى عقودٍ من الزمن دينياً وسياسياً وثقافياً وتعليمياً، وصندوق القلب حيث تهييج العواطف واستغلال المصائب والكوارث، وهي ثلاثة صناديق تعمل في سوريا اليوم على قدمٍ وساقٍ.

أخيراً، فلفهم ما جرى وما يجري وما سيجري مستقبلاً ينبغي للمهتم، من باحثٍ ودبلوماسيٍ وكاتبٍ، أن يعيد تثقيف نفسه بالتاريخ الحديث والمعاصر، بأسماء لأشخاصٍ وجماعاتٍ ومفاهيم دينية وسياسيةٍ واجتماعية وفلسفية، أسماء مثل «أبو قتادة الفلسطيني» و«أبو محمد المقدسي» و«أبو مصعب السوري» و«أبو بصير الطرطوسي»، وأمثالهم كثير، وكذلك «جماعة الإخوان المسلمين»، و«جماعة السرورية»، وكذلك كيف يتم التلاعب بمفاهيم حديثة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التاريخ والفكر سوريا بين تزويرين التاريخ والفكر سوريا بين تزويرين



GMT 12:25 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

عاش الإمام يقول

GMT 08:44 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

المُنقضي والمُرتجَى

GMT 08:42 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

«طوفان الأقصى» و«ردع العدوان»: إغلاق النقاش وفتحه...

GMT 08:39 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

عام ليس ككل الأعوام

GMT 08:38 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

استعادة ثورة السوريين عام 1925

GMT 08:35 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

2025... العالم بين التوقعات والتنبؤات

GMT 08:30 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

بشير الديك.. الكتابة على نار هادئة!!

GMT 08:28 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

كان عامًا كغيره

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 19:37 2024 السبت ,07 كانون الأول / ديسمبر

اقتصاد منطقة اليورو ينمو في الربع الثالث بـ 0.4%

GMT 12:22 2012 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

رحلة إلى العصور الوسطى في بروغ البلجيكية

GMT 10:53 2019 الإثنين ,25 آذار/ مارس

مصطفى خاطر ينشر صور من كواليس مسلسل "طلقة حظ"

GMT 22:15 2018 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

"الأوريس" المفتاح السحري لأفخر العطور الرجالية في الشتاء

GMT 23:17 2023 الجمعة ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك الإفريقي يتعهد بدعم ضحايا زلزال الحوز

GMT 06:52 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

المغرب يسعى لاقتناء صواريخ "باتريوت" الأمريكية

GMT 11:18 2018 السبت ,27 كانون الثاني / يناير

باستوري ينوي الرحيل إلى إنترميلان الإيطالي

GMT 17:46 2015 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار سيارة كيا سيراتو 2016 في المغرب

GMT 01:19 2015 الأربعاء ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الناقد العراقي رسول محمد رسول يعلن عن آخر اصداراته الأدبية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib