بقلم : جورج شاهين
على اللبنانيين ان يعتادوا أنّ برامج التقنين في لبنان تجاوزت الكهرباء والمياه الى الدولار، وكما عليهم دفع فاتورتيهما ان يستعدوا لفاتورة الدولار، وربما اكثر. وطالما أنّ لهذه المستجدات ما يبرّرها لأكثر من سبب، فقد جاء تعميم مصرف لبنان لتأمين الحاجات الأساسية بالسعر المدعوم ليفضح الكثير ممّا كان مستوراً في اكثر من قطاع. فكيف السبيل الى هذه المعادلة؟
مهما اختلف الخبراء والمراقبون الاقتصاديون والماليون في توصيف ما شهدته السوق النقدية في لبنان من فوضى وتشبيح واستغلال وقلق والأسباب والظروف التي قادت اليها، فإن هناك الكثير ممّا اجمعوا عليه عند مقاربتهم ما حصل بالأرقام والوقائع المخفية والمعلنة.
يعتبر كثيرون انّ المسكّنات التي لجأ اليها المعنيون لضمان استقرار سعر الليرة اللبنانية تجاه العملات الأخرى لم تعد تنفع، وكان عليهم اللجوء قبل سنوات الى سلسلة من العمليات الجراحية لتفادي ما حصل، والذي كان متوقعاً. فتقارير مؤسسات التصنيف، وتلك التي قدّمها الإستشاريون والدول والمؤسسات الدولية المانحة، وُضعت على الرفوف بسبب ملامستها المصالح التي بنت عروشاً سياسية وامبراطوريات مالية بشكلٍ موازٍ لكل ما هو قانوني وشرعي ومؤسساتي.
من هذه النوافذ يخرج الخبراء المعنيون ليشيروا الى انّ ما اظهره التعميم الصادر عن مصرف لبنان مطلع الأسبوع الجاري لتأمين الخبز والدواء والمحروقات للبنانيين بالأسعار المدعومة للدولار، فضح الكثير مما كان مخفياً، ولو في بعض القطاعات. فقد بلغ احتياط الخزينة ومصرف لبنان من الدولار الحدود الدنيا المسموح بها في كل النظم المالية، وكان لا بدّ من تقنين «العملة الخضراء» لتبقى ضمانة للسلع الأساسية التي تحتاج اليها العائلة اللبنانية والحدّ من استنزاف القدرات المسخّرة لهذه الغاية، ومن أجل منع انجراف البلاد الى حيث لا يستطيع أن يتحمّله احد.
وعليه، ادّى التعميم الصادر عن مصرف لبنان غرضه في اكثر من اتجاه. فهو القى الضوء ساطعاً على حجم استنزاف قدراته والمالية العامة على مرّ السنوات الماضية. فقد تسببت الأحداث الأمنية والتطورات السياسية، نتيجة قيام دولة ضمن دولة واستمرار الهدر في المؤسسات الكبرى، الى هروب رؤوس اموال كبيرة منذ بداية العام الجاري، وتجاوز عجز ميزان المدفوعات ما كان متوقعاً، ولجأ مصرف لبنان في سلسلة تعاميم الى تشجيع المصارف على استعادة رؤوس الأموال بفائدة عالية لآجال طويلة حُدّدت بثلاث سنوات على الأقل لتعزيز قدراته لحماية الإستقرار النقدي بعد الانتقال من مرحلة ربط سعر العملة الوطنية الى تثبيته، فبات هناك سعران، واحد (مثبت) وآخر (مربوط) بحركة العرض والطلب، والفرق بينهما كبير.
والى ما تقدّم من معطيات، ظهر جلياً انّ تطبيق ما قال به تعميم مصرف لبنان ليس سهلاً باعتراف مباشر من حاكم البنك المركزي الذي تحدث عن الحاجة إليه «من اجل الاستقرار الاجتماعي ولعدم إثارة المزيد من الفوضى». لكنه اعترف في الوقت عينه بأنّ «الضوابط التي وضعها ربما أزعجت البعض». وهو ما قاد الى قراءة الشروط التي وضعها اصحاب المؤسسات المستوردة للمشتقات النفطية والأدوية من اجل التهرّب من عملية المراقبة المشددة التي ستواكب عمليات الإستيراد جراء الحسابات الجديدة التي ستُفتح في المصارف. فإن قَبلَ هؤلاء بمبدأ وضع نسبة 15 % من قيمتها بالدولار، فقد رفضوا وضع 100 % من قيمتها بالليرة اللبنانية.
وفي التفاصيل، اعتبرت شركات النفط انّ التعميم لم يشمل سعر مخزونها الحالي من المواد المستوردة بالدولار ولا ما قالت به العقود المبرمة للفترة المقبلة.
وزادت شروطها لتأمين قيمة الرسوم الجمركية والضرائب بالدولار الأميركي، رغم أنّها تدفعها الى الجهات الجمركية والمالية المعنية بالليرة اللبنانية.
اما شركات الأدوية، فاعترضت على النظام المُعتمد بأكمله، معتبرة ومعها المصارف، انّ عقودها تجري بطريقة مغايرة لا يمكن ربطها بالآلية الجديدة، وهو ما أظهر الرغبة في البقاء خارج تعميم المصرف المركزي.
وعلى هذه الأسس صار واضحاً للجميع، وبمعزل عن الصيغة التي يمكن التوصل اليها بين الشركات المستوردة للنفط والأدوية مع مصرف لبنان والمصارف، سواء بتعديل آلية التعميم أم عدمه، فإنّ هذه الشركات لا ترغب في الإنضمام الى اي آلية منظّمة تحدّد لها الضوابط كي تبقى تعمل بحرّية كاملة، فلا تريد الربط بين حاجة السوق اللبنانية من النفط، وربما الأدوية، وحجم مستورداتها، لتبقى مصدراً لبيعه خارج الأراضي اللبنانية، وهو أمر لم يعد سراً، فهناك جهات سياسية ترعى هذه العملية وتقودها للخروج من نظام العقوبات المفروضة على دول المنطقة.