بقلم : جورج شاهين
إنّ الأضرار غير الظاهرة التي ألحقتها أحداث «الأحد الدامي» في الجبل بهيبة الدولة ومؤسساتها، لا تصدّق. ومن لم يستمع الى شكاوى الأهالي وقلقهم فهو أطرش. ومن لم يشاهد المصطافين على قلّتهم يغادرون المنطقة فهو أعمى، إذ لا يمكن تجاهل هذه المعطيات، ولذلك يُطرَح السؤال: البلد الى أين؟ وحصراً الحكومة الى أين؟
قد يدعو بعض من يتربّع على عرش السلطة وفي موقع المسؤولية الى تجاهل المعطيات السلبية، والتخفيف من مخاطرها التي انعكست على وجوه عدة من حياة الناس. وقد يتجاهل الحقائق بالإدعاء القاطع بالقدرة على تطويق ذيول ما حصل في أسرع وقت ممكن، وإعادة الحركة الى طبيعتها في المنطقة بعد نسج المصالحات الضرورية.
وانطلاقاً من هذه المعادلة، يشكّك بعض العارفين في سهولة ولوج هذه المراحل المتقدمة. فما يدور في الكواليس من سيناريوهات تعكس في حجمها وأهدافها غير المعلنة الاستخفاف بصدقية هذه الوعود وإمكان تحقيقها. ففي عِلم الساعين الى تهدئة الخواطر كثير من الوقائع التي تدل الى ما بلغته ردود الفعل على أكثر من مستوى. وهي لا توحي أنّ هناك من يستطيع رعاية مثل هذه المصالحات التي يتحدثون عنها، خصوصاً من يعتقدون أنهم في موقع يسمح لهم بالحديث مع جميع الأطراف وتقريب وجهات النظر.
فما بلغته التطورات بمظاهرها المعلنة والخفية باتت بعيدة عن مساعي التهدئة، ولا شيء يوحي إمكان البحث في مصالحات بين أهالي القتلى والجرحى من طرفي النزاع في الجبل ممّن دفعوا الثمن الأغلى. وكذلك يستحيل الحديث عن مصالحات على مستوى أوسع بعد أن استدرجت أحداث الجبل البعض الى تحالفات جديدة عكستها الأجواء التي سبقت أحداث «الأحد الدامي» وتَلتها، وتلك التي شهدها اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، وعملية تعطيل جلسة مجلس الوزراء في اليوم التالي.
ويضيف العارفون أنّ رئيس الحكومة لم يتجاوز بعد تعطيل الجلسة، ولا هو مرتاح الى المماطلة في تحديد موعد جديد، لأنه يلاحظ أنّ هناك شروطاً تتسرّب من كواليس الحركة السياسية التي توسّعت على أكثر من مستوى سواء بين المسؤولين مؤيدين كانوا أو معارضين، لِما هو مطروح من مخارج وما يدور في الكواليس الأخرى.
ويُستدل على ما يثبت هذه المخاوف، الشروط التي وضعت لتسَلّم أهالي القتلى جثث أبنائهم من المستشفى قبل التريّث في تحديد مراسم الدفن وتمديدها لنحو أسبوع، جرى استغلال كل يوم منه من أجل إطلاق المواقف التي لا توحي إمكان التوصّل الى تحديد موعد لجلسة مجلس الوزراء المقبلة.
وظهر التفسير للمماطلة في عملية الدفن، التي عدّها البعض محاولة مكشوفة لاستغلال المشاعر وتوظيفها سياسياً، في الحديث عن جلسة حكومية للتصويت على إحالة ملف أحداث الجبل الى المجلس العدلي قبل القيام بأي عمل آخر. وهو شرط لا يمكن لرئيس الحكومة القبول به أيّاً يكن الثمن، فيما لم يظهر أنّ هناك مساعي مبذولة لترميم العلاقات بين أصحاب التسوية السياسية التي زاد بعض المواقف حدّتها.
فوصف وزير الدفاع حادثة الأحد بأنها مَكمَن مسلح، بل الحديث عن أكثر من مكمن على الطريق، إعتبره الفريق الآخر محاولة لإدارة تحقيقات الأجهزة الأمنية والقضائية، وتشكّل حكماً مسبقاً لا يمكن قبوله بمجرد تجاهل أنّ من بين القتلى مَن أطلق «الرصاصة الأولى»، وفقاً للمشاهد التي أظهرتها الأفلام الخلوية والكاميرات المنصوبة في مناطق الأحداث التي امتدت على أكثر من بقعة.
والى هذه القراءة الأمنية والقضائية تبقى الأبواب موصدة أمام الحلول السياسية، ذلك أنّ أي إجماع لم يتحقق سوى نظرياً بالفصل بين الملفات، فكل ما هو قضائي وضع في عهدة القضاء والضابطة العدلية، وما هو ميداني وضع في عهدة الجيش وقوى الأمن الداخلي، وما هو مكمل لعملهما وضع في عهدة «وسيط الجمهورية» المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم.
وفي انتظار النتائج التي يسعى اليها ابراهيم، صار واضحاً لدى العالمين بالحقائق أنّ المتورطين مباشرة بالحادث ما زالوا أحراراً ومنهم، على سبيل المثال، مرافقو وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب وبضعة عشرات من مطلقي النار من الجانب الإشتراكي. أو على الأقل لم يُعلن بعد عن تسليمهم الى الأجهزة المعنية لمباشرة التحقيقات العميقة المطلوبة، فبقيت حتى الآن محصورة بما يمكن وضعهم على لائحة شهود العيان.
والى هذه المعطيات تبقى الإشارة واضحة الى أنّ ما يسمّى هيبة الدولة وضعت في رأس لائحة الضحايا، ومن بعدها موسم الإصطياف، عدا عن إمكان تطور الأمور الى ما هو أدهى وأخطر إذا لامست حدود دخول البلاد أزمة حكومية قد تنعكس على وجوه عدة من الحياة الطبيعية.