بقلم : جورج شاهين
على هامش النقاش المفتوح في لجنة المال النيابية لمشروع قانون الموازنة تتعدد القراءات في ما هو مطروح في كثير من بنودها. وإلى سعي بعض الكتل النيابية لتعطيل ما أُقرّ في الحكومة، هناك مَن ينظر إلى ما يجري بعين الريبة. وإلى توقعهم الفشل في تقديم موازنة موزونة ومتوازنة فهم يصرّون على أنها تجاهلت «الإقتصاد الرديف» وأموال «الظل» المخفيّة. فكيف السبيل الى هذه القراءة؟
عبّر خبير اقتصادي في أكثر من لقاء عن الرغبة في ان تبقى المناقشات الجارية في ساحة النجمة بعيدة عن الظهور الإعلامي. فالمكان ليس منتدى اعلامياً ولا مناسبة محبّبة للحديث عن «الإنجازات الوهمية» التي تحققت في هذه المادة أو تلك، ولا في هذا البند أو ذاك قبل بلوغ المراحل النهائية والحتمية للورشة القائمة
في لجنة المال والموازنة التي تحولت «ميني» جلسة نيابية.
فعددٌ غير قليل من النواب الجدد الذين دخلوا الساحة التشريعية، عبّروا بمواظبتهم على المشاركة في اعمال اللجنة عن النية بفهم تركيبة الموازنة وطريقة إعدادها، كونها ستكون «الآلية الناظمة» للعمل الحكومي طوال السنة المعنية بها، وتحدّد طريقة التصرف بالمال العام وإستخدامه في حياة اللبنانيين اليومية. بدليل انّ عدداً منهم يبذل جهداً مضاعفاً لفهم ما يجري وسبل مقاربة بنودها ليتصرّف على اساسها في السنة المالية المقبلة أو ما تبقى منها.
وعليه يتباهى البعض ممَّن يرغبون البحث عن موقع متقدّم حيث ما وجدوا، بتوصيف ما يجري في ساحة النجمة بأنه للدلالة على استقلالية مجلس النواب وقدرته في «توليد» و«طبخ» موازنة جديدة تتجاهل «الإنجاز» الحكومي رغم انّ ما يخضع للمناقشة هو من نتاج رفاق لهم تجمعهم تكتلات نيابية وزارية، تتحكّم الى حدّ بعيد بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، بعدما نجحوا في خنق المعارضين والتشدد في إقفال أبواب الجنّات النيابية والحكومية والإدارية امامهم من دون أن يتركوا لهم منفذاً الى احتمال قيام معارضة تحتاجها السلطة، أي سلطة، في المطلق، ولو في الشكل، لتبرّر إلتزامها النظام البرلماني الديموقراطي تمهيداً للتباهي بسياساتها ولتؤرّخ منجزاتها والدلالة الى قدرتها على انتشال البلد ممّا هو فيه ونقله الى المكان الموعود.
لا يستخفّ الخبير الإقتصادي بالقدرات المتوافرة عند الأطراف المتحكّمة بالحكومة ومجلس النواب على تصوير الأمور كما يرغبون أن تكون، فكل القدرات السياسية والإدارية والماليّة متوافرة، وما يعوقها وجود اكثر من نهج اقتصادي وتوجّه سياسي لدى أهل الحكم. فالجميع يدرك أنهم التقوا في اطار صفقة سياسية جمعتهم على نقاط وقراءات سياسية واقتصادية ومالية متقاطعة في مرحلة من المراحل، وانتهت بتقاسم السلطة ومواقعها على كل المستويات. ولذلك يبدو واضحاً أنّ حركتهم لا تشلّ إلّا في حال وقع الصدام حول امور استراتيجية لا يمكن أحد أن يتنازل أو يتراجع عن ثوابته فيها.
بهذه المقاربة، يرغب الخبراء الإقتصاديون أن يتطلّعوا الى مشروع قانون الموازنة الذي «أنجبته» الحكومة ووضعته «أمانةً» بين أيدي «رفاق» لها في مجلس النواب مع التمني بعدم العبث به. وهو امر جاهر به رئيس الحكومة سعد الحريري عند عودته من عطلة عيد الفطر الطويلة موجِّها الإنتقادات الى ما سبق من آلية تعاطي الحكومة مع الموازنة في جلساتها التسعة عشر، ومنبّهاً المجلس النيابي من احتمال أن يعيد النظر بما هو مقترح فيها حفاظاً على نسبة العجز «الوهمية» المحققة.
ومن هذه الزاوية بالذات، يتدخّل الخبراء الإقتصاديون لينتقدوا بشدة الأسباب الموجبة التي قادت الى مثل هذه الموازنة، التي بحثت عن موارد للخزينة في مجموعة من القطاعات الحيوية التي تعني الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، من ذوي الدخل المحدود والمتوسط والمتقاعدين لبناء مواردها بنحو لا يتكرّر فيه «الخطأ المريع» الذي ارتُكب سابقاً، وتحديداً عند إقرار موازنة 2018.
فالتقديرات الخاصة بموارد موازنة 2018 شكلت عبئاً ثقيلاً، فهي التي «طُبخت» في وزارة المال واللجنة النيابية المختصة، وقد سجلت بفعل التجربة العملية خطأً كبيراً في تقدير الواردات لم تشهده أيُّ موازنة قبلاً.
فقد تجاوز العجز رقماً مقدّراً بـ 3800 مليار ليرة لبنانية من أصل التقديرات «الوهمية» التي بلغت ما يقارب 19800 مليار ليرة لبنانية. مع الإشارة الى أنّ هذه الأرقام ليست ثابثة وغير نهائية. فالخبراء الإقتصاديون والماليون يشكون عدم نشر وزارة المال اي معلومات دقيقة عن موازنة العام 2018 لجهة تحديد النفقات والواردات، لتُبنى عليها القرارات المستقبلية رغم توفرها منذ نهاية كانون الثاني الماضي وأوائل شباط. والمستغرَب في رأيهم أنهم يبحثون اليوم في موازنة 2019 من دون النظر الى تجربة العام السابق، ولا الى ما يمكن أن تعطيه المؤشرات المالية عن الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، فلربما كانت أرقاماً إيجابية وربما سلبية، وهو ما قد يؤدي في مثل هذا الغموض الذي يلفها الى تكرار الخطأ الكبير مرة أخرى.
ويحذر الخبراء الإقتصاديون من اعتماد الموازنة في تقدير نفقاتها على ما يمكن جبايته من ضرائب ورسوم مباشرة من جيوب الناس على رغم من اسقاط رسم الـ 2% على المستوردات، تجاه ما هو معلوم من كلفة رواتب المتقاعدين العسكريين أو نتيجة إخضاع الأرقام المميّزة للسيارات والآليات للرسوم المستغرَبة والمستهجنة لتوفير الواردات بدقة اكثر من ذي قبل. وفي حال لم تخضع هذه الرسوم للاستنسابية والإعفاءات، هناك مَن يُفكّر، في حال إعادة العمل بالرسوم على الزجاج الداكن، أن يعطى الحق لمسؤول ما، بإعفاء مواكب المسؤولين من الوزراء والنواب من هذه الرسوم وتركها مفروضة على عموم الشعب. فهناك لدى المسؤولين إحصاء يتحدث عن نحو 3000 قرار بالزجاج الداكن منح للمسؤولين ومواكبهم والحاشية واكثر من 8000 رقم مميز لهم ولعائلاتهم ومرافقيهم عدا عن الأرقام التي في حوزة العسكريين والديبلوماسيين وهي بالآلاف أيضاً.
وايّاً كانت المعطيات غامضة بما يمكن الخروج به من ساحة النجمة. فهناك امر واحد ثابت هو انّ الموازنة تجاهلت الإقتصاد الموازي والرديف للإقتصاد الشرعي، ولن تنجح ما لم يُعمَل على توفير القرار السياسي الجامع لضبط المعابر البرية والبحرية والجوية. فالخروقات كبيرة والمال «المعلوم - المفقود» في المشاريع الإستثمارية والخدماتية والذي ظهرت بعض أرقامه المخفية في قطاعات الخلوي والمرفأ والمطار والتسرب الجمركي، كافية للدلالة على عجز الحكومة من توفير القرار الذي يؤدي الى فتح هذه الملفات في وضوح وشفافية لتنتظم الماليّة العامة حيث تكون الخطوة الأولى الى الإنماء المنشود والإصلاح المفقود.