كيف تنظر القيادة الخمينية في طهران إلى العالم المعاصر؟ شغل هذا التساؤل أذهان مراقبي الشأن الإيراني طيلة عقود. ومن بين الأسباب الكامنة وراء كون هذا التساؤل مثيراً للحيرة سحابة الشعارات الضبابية التي تتخفى خلفها حقيقة السلوك الإيراني.
إلى جانب هالة الغموض، لدينا سياسة خارجية مزدوجة منقسمة على نفسها بين فصيلين، تداعب أولهما أحلام إعادة صياغة شكل العالم، في الوقت الذي يتوق الآخر إلى الانضمام إليه.
ومع ذلك، فإننا اليوم وربما للمرة الأولى في تاريخ النظام الخميني، نجد أن النخبة الخمينية الحاكمة بدأت تدرك أخيراً أنه ليس باستطاعتها إعادة تشكيل العالم ولا الانضمام إليه تبعاً للشروط العتيقة التي تجاوزها الزمن منذ أمد بعيد التي يتمسك بها النظام الإيراني.
ونظراً لعجزها عن الاعتراف بهذه الحقيقة، تحاول النخبة الحاكمة في إيران صيغة عالم خيالي تحتفظ في إطاره الجمهورية الإسلامية ببعض النفوذ والأهمية.
وظهر أحد المؤشرات على ذلك الأسبوع الماضي عندما ألقى وزير الخارجية محمد جواد ظريف كلمة أمام مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان الإيراني) الذي جرى تشكيله حديثاً.
وصف ظريف الخطاب الذي ألقاه وجاء مكوناً من 5000 كلمة باعتباره مراجعة للأوضاع الدولية. وفي خطابه قال إنه على مدار ما بين الأعوام الـ70 والـ100 السابقة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، شهد العالم تغييرات جوهرية أعادت تعريف العلاقات والمفاهيم الدولية.
ومع هذا، لم يشر ظريف على وجه التحديد إلى المفاهيم والعلاقات التي يقصدها، وإنما اكتفى بترديد عبارات أصبحت أقرب إلى «كليشيهات»، مثل «فترة انتقالية» و«سيولة» و«التحول المستمر» اشتهرت على لسان محللين معنيين بالسياسات الخارجية الأميركية، مثل جوزيف ناي وريتشارد هاس؛ سعياً منه لإضفاء صبغة أكاديمية على العرض الذي قدمه.
وخلال كلمته، أقر ظريف بأنه رغم أهميتها على الصعيدين الجيوسياسي والاستراتيجي، لم تحظ إيران بدور في إطار هذا العالم المتغير، ولا تزال مفعولاً بها وليست فاعلاً، حتى فيما يتعلق بتاريخها.
ومع ذلك، أكد ظريف أن النظام العالمي الذي شكّلته قوى غربية بقيادة الولايات المتحدة بلغ نهايته مع ظهور علاقات قصيرة الأمد تقوم على أساس كل حالة بمفردها بديلاً للتحالفات طويلة الأمد. وبالنظر إلى أنه في ظل عالمنا اليوم لم يعد ثمة شيء مؤكد، فإنه من الخطير أن تنظر الجمهورية الإسلامية إلى أي علاقة بثقة.
والآن، إذا كنت تشعر بارتباك حيال كل ذلك، فعليك ألا تندهش.
في الواقع، يحاول ظريف إنجاز مهمة مستحيلة من خلال صياغة مكان لجمهورية إسلامية ترغب في أن تكون جزءاً من نظام عالمي تأمل في أن تدمره.
ومن أجل إرضاء جمهوره الكاره لأميركا، يصر ظريف على أن الولايات المتحدة لم تعد في موضع قيادة.
ورغم ذلك، ذكر ظريف الولايات المتحدة في كلمته 16 مرة، في الوقت الذي أورد ذكر قوى أخرى من المفترض أنها تشكل الأقطاب الجديدة للنظام العالمي، الصين وروسيا، مرتين فقط.
وفيما يخص روسيا، أشار ظريف إلى خطاب بعث به الخميني إلى زعيم الاتحاد السوفياتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف دعاه من خلاله إلى التخلي عن الشيوعية والتحول إلى الخمينية. (في مذكراته، أشار غورباتشوف إلى هذه الواقعة باعتبارها الأكثر غرابة على مستوى مسيرته السياسية). وأشار ظريف إلى أن «المرشد الأعلى» الحالي «ينتهج المسار ذاته»، رغم أنه من غير الواضح ما إذا كان خامنئي قد حث فلاديمير بوتين على إتباع النهج الخميني.
الملاحظ أن طريف استوحى إلهام جميع ما ورد في الكلمة التي ألقاها تقريباً من قراءات، بعدها صحيح وبعضها خاطئ، لكتابات مفكرين معنيين بالسياسة الخارجية الأميركية. أما المصدر الأجنبي الآخر الذي ذكره، فهو مستشار الأمن الوطني الأميركي جون بولتون. (وأشار ظريف إلى مصدرين آخرين فقط: آية الله الراحل الخميني وخليفته آية الله خامنئي.)
وعلى ما يبدو، نسي ظريف أن السنوات الأربع الأولى من عمله وزيراً للخارجية جرى تكريسها لصياغة ما أطلق عليه «الاتفاق النووي» بالتعاون مع الأميركيين ذاتهم الذين نعتهم بأنهم دونما قيمة تذكر.
اللافت أن ظريف لم يذكر على الإطلاق «الاتفاق النووي» الذي يعترف اليوم أنه لم يكن سوى حزمة من السلع باعها إياه جون كيري.
وربما سعياً لإرضاء الجمهور الكاره للولايات المتحدة، ادعى ظريف كذلك أن أولويته الأولى التخلص من الدولار الأميركي والاستعاضة عنه بعملة أخرى فيما يخص العلاقات التجارية الإيرانية الخارجية، والتي طالب بإعادة تنظيمها على أساس المقايضة.
وادعى ظريف أنه على الساحة الدولية، حلت العلاقات المؤقتة محل العلاقات طويلة الأمد. ومع ذلك، أشار إلى أن إيران تحاول الانضمام إلى الكتلة اليوروآسيوية التي تقودها روسيا. كما أشار إلى وجود «تحالف استراتيجي» مع الصين منذ 25 عاماً؛ الأمر الذي يعتبر أشبه بنكتة يجري الترويج لها من جانب مجلة أسبوعية تصدر في لندن وصحيفة يومية تصدر في نيويورك.
ومع ذلك، فإنه من بين جيران إيران الـ15، أشار ظريف إلى ستة منها فقط تتمتع إيران معها «بأفضل مستوى من العلاقات».
وحتى هذا الادعاء من جانبه يبدو مثيراً للشكوك.
على سبيل المثال، تقف إيران وتركيا على جانبين متقابلين من الصراع داخل سوريا والصراع الأرمني ـ الأذربيجاني. وشيدت تركيا جداراً لمسافة 130 كيلومتراً بهدف غلق الحدود بينها وبين إيران. وفي الأسبوع الماضي، حظرت تحليق طائرات إيرانية في مدن تركية.
وفيما يخص باكستان، فإن الحرس الثوري الإسلامي يدعي أن قرابة 80 جماعة مسلحة تعمل ضد إيران من داخل باكستان، في الوقت الذي يدعي باكستانيون أن طهران تمد يد العون إلى جماعات تنتمي إلى عرق البلوش تتعمد تخريب المشروع الصيني في مدينة كوادر الباكستانية.
أما العلاقات مع العراق فليست أفضل حالاً.
من وقت إلى آخر، تقصف قوات الحرس الثوري الإيراني قرى كردية عراقية من أجل إرهاب الإيرانيين المنفيين هناك. ويشعر كثير من العراقيين بالسخط إزاء وجود ميليشيات تسيطر عليها طهران ويقودها أفراد يحملون الجنسيتين الإيرانية والعراقية.
ورغم مرور ثلاثة عقود على نهاية الحرب بين البلدين، لم تتفاوض إيران والعراق بعد بخصوص معاهدة سلام بينهما. ولا تزال منطقة شط العرب الحدودية مغلقة في الوقت الذي أرجئت إجراءات ترسيم الحدود البرية.
أما روسيا، فقد حنثت بعشرات الوعود التي أطلقتها بينما استغلت القوة البشرية الإيرانية حطب وقود في سوريا.
وبالمثل، لا تزال العلاقات مع أفغانستان متأرجحة بسبب تودد طهران من جماعة «طالبان» في الوقت الذي تتولى إمداد ميليشيات شيعية في اثنين من أقاليم البلاد بالسلاح. وتتسبب المعاملة الوحشية للاجئين والمهاجرين الأفغان في تفاقم التوترات بين الدولتين الجارتين.
في كلمته، لم يذكر ظريف سوريا أو لبنان أو اليمن؛ لأنه داخل هذه المناطق تتولى قوة «القدس» إدارة الأمر. وسعياً من جانبه للتظاهر بأن وزارته ليست دون أهمية، حرص ظريف على عقد اجتماعات أسبوعية مع قاسم سليماني، ومن المفترض أن الهدف من الاجتماعات كان اطلاع ظريف على آخر مستجدات الإمبراطورية التي زعم الجنرال الراحل أن منهمك في بنائها.
وخلال الكلمة التي ألقاها، قال ظريف إنه يتعين على الجمهورية الإسلامية تقليل سقف طموحاتها العالمية والتركيز على ضمان مكان لها داخل المنطقة التي تنتمي إليها.
ولم يذكر في معرض حديثه العلاقات مع أوروبا واليابان والهند، في الوقت الذي عمد إلى تجاهل المبالغ المالية الضخمة والطاقة المهدرة على مشروع تلميع صورة النظام في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
ومع هذا، فإن ادعاء ظريف باهتمام بلاده بتعزيز روابطها الإقليمية ربما يكون محض هراء هو الآخر.
بخلاف العراق، لم يرد ذكر أي من الدول العربية المجاورة لإيران في خطاب وزير الخارجية الإيراني، وأغفل ذكر 18 من إجمالي 26 جولة تشكل في مجموعها الشرق الأوسط الكبير.
ومن بين تلك الدول أربع قطعت علاقاتها مع طهران، في الوقت الذي تتعامل معها 10 أخرى منها باعتبارها دولة منبوذة. أما المفاجأة فكانت إغفال ذكر إسرائيل التي من المفترض أن يجري تدميرها خلال الأعوام الـ22 المقبلة. أبضاً، لم يرد ذكر فلسطين التي تدعي طهران دوماً أنها تشكل «الأولوية رقم 1» لها.
إضافة إلى ذلك، غاب أي ذكر لمبدأ «تصدير الثورة»، الذي يعتبر أشبه بهوس دائم للنظام الإيراني. بمعنى آخر، لم تعد الجمهورية الإسلامية تطمح إلى إعادة صياغة شكل المنطقة ليصبح شبيهاً بها. إلا أنه في الوقت ذاته لا يزال من المبكر للغاية القول بأنها ربما تشرع في التشبه بباقي دول المنطقة من حولها.
الواضح أن ظريف يشعر بالارتباك والحيرة، خاصة أنه قضى الجزء الأكبر من حياته مع رؤية للعالم تتركز حول الولايات المتحدة. واليوم، أصبح لزاماً عليه التخلي عن هذه الرؤية كي يتمكن من الاحتفاظ بمنصبه. والآن، نجد الجمهورية الإسلامية نفسها معتمدة على دبلوماسية تقوم على الخداع البصري - مشهد مؤسف بالتأكيد لإيران التي كان من الممكن أن تصبح قوة مشاركة بإيجابية على الصعيدين الإقليمي والدولي.