إحدى الحجج التي يطرحها منتقدو سياسة «الضغط لأقصى مدى» التي يتبعها الرئيس ترمب في تعامله مع إيران، هي أنه بعيداً عن إقناع الجمهورية الإسلامية بتغيير سلوكها، فقد ساعد ذلك على تهميش ما يسمى «الفصيل المعتدل»، ودفع «المتطرفين» إلى تبني موقف أكثر عدوانية.
قد يبدو النقد مبرراً للوهلة الأولى؛ ففي الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد الشهر الماضي جرى تحويل الفصيل «المعتدل» الذي كان دائماً ما ينظر له على أنه «سندريلا النظام»، إلى فأر في المطبخ الخميني.
فبعد أن جرى عرض الرئيس حسن روحاني وحكومته على أنهما ليسا سوى دُمَى، الثلاثاء الماضي، قرر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي إعادة تأكيد موقفه بوصفه محرك الدُمَى، وذلك بإلغاء قرار «المجلس الإسلامي» بشأن الميزانية الوطنية الجديدة. وبعد أسابيع من النقاش، رفض المجلس السابق الميزانية بأغلبية واضحة. إلا إن المرشد الأعلى احتاج إلى ميزانية للإنفاق على مختلف الهيئات العسكرية والأمنية التي بني عليها النظام، ناهيك برواتب بشار الأسد وحسن نصر الله والحوثيين و«حماس» و«الجهاد الإسلامي» والميليشيات العراقية، وغيرها من الجماعات في جميع أنحاء العالم. وفيما يطلق عليه «مرسوم الدولة» الموجز، وهو نوع من الفتوى، أعلن المرشد الأعلى الموازنة الوطنية المعتمدة، التي أوضحت أن الرئيس ومجلس الوزراء و«المجلس الإسلامي»، جميعهم يسيرون وفق نزواته.
وبعبارة أخرى، أجبرت سياسة ترمب الجمهورية الإسلامية على كشف هويتها الحقيقية بوصفها نظام «عالم ثالث» قائماً على جهاز الأمن العسكري ذي الواجهة الثيوقراطية المزيفة.
أعتقد أن ذلك تطور مهم وإيجابي، والسؤال الوحيد هو: هل ستؤدي نهاية اللعبة المعتدلة - المتشددة إلى تغيير السلوك في طهران؟
يمكن أن يكون الجواب مؤقتاً «نعم»، ويمكن اعتبار نهاية ثنائية «الاعتدال» و«التشدد» جزءاً من تغيير السلوك المعني. فهناك دلائل تشير إلى أن النظام بدا حريصاً دائماً على عدم فقد ماء وجهه في تعديل سلوكه في عدد من المجالات.
ولأول مرة منذ عقود؛ قامت طهران بتقليص مؤتمراتها الدولية السنوية التي تحمل عناوين؛ مثل: «النهاية لأميركا» و«النهاية لإسرائيل»، التي اجتذبت المعارضين للولايات المتحدة ومنكري محرقة اليهود من مختلف أنحاء العالم. وانتظرت الحشود المعتادة من كارهي الولايات المتحدة التي يحضرها شخصيات مثل لويس فاراخان وابنة وصهر تشي غيفارا، وصول دعوات للسفر إلى الجمهورية الإسلامية لحضور حفل السباب الجماعي لـ«الشيطان الأكبر»، لكن انتظارهم جاء بلا جدوى. العام الحالي، لم تكن هناك معارض لرسوم كاريكاتورية تنكر محرقة اليهود (الهولوكوست)، فيما انتظر أوليفر ستون وشخصيات أخرى دون جدوى دعوة لحضور مهرجان «الفجر» السينمائي للتنافس في رياضتهم المفضلة في تقريع أميركا.
الأهم من ذلك، أن مشكلات التدفق النقدي أجبرت طهران على خفض المدفوعات للعملاء الإقليميين في العراق ولبنان وسوريا واليمن وأفغانستان وغزة. وقد أدى ذلك إلى تخفيض الوجود العسكري لـ«حزب الله» اللبناني في سوريا، في حين أن الحوثيين في اليمن دخلوا مرحلة اتسمت ببطء الحركة. كذلك أغلقت جميع المكاتب في 30 مدينة وبلدة إيرانية تجند «متطوعين» للقتال في سوريا وتدعي ظاهرياً أن هدفها حماية المراقد الشيعية، فيما خفض البعض الآخر تمثيله إلى حضور رمزي.
كما توقفت الجمهورية الإسلامية عن تشكيل وحدات قتالية جديدة من المرتزقة الأفغان والباكستانيين، ولم تتحقق المزاعم القوية بأن طهران ستساعد الفنزويلي نيكولاس مادورو على إعادة تأكيد سلطته بمبالغ هائلة من النقد.
في الوقت نفسه، لم تسعَ طهران لاعتقال أي رهائن جدد، بل أطلقت سراح ثلاثة؛ منهم أميركي. وخلال لقاء جرى في زيوريخ مع براين هوك، المكلف من قبل ترمب التعامل مع الملف الإيراني، نقل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف رسالة مفادها بأن طهران كانت مستعدة لإطلاق سراح مزيد من المعتقلين.
ولقلقهم من احتمال اضطرارهم للتعامل مع ترمب خلال فترة ولاية ثانية، تراجع مساعدو خامنئي عن التمني علناً بأن طهران تتطلع إلى رئيس من الحزب الديمقراطي، ويفضل أن يكون جو بايدن، ليحل محله في البيت الأبيض عام 2021.
ظهرت علامة أكثر دراماتيكية على تغيير السلوك من جانب طهران في أعقاب مقتل الجنرال قاسم سليماني في هجوم أميركي بطائرة من دون طيار. وصف خامنئي سليماني بأنه «قرة عيني»، وتوقع كثيرون أن يخلف الجنرالُ سليماني روحاني رئيساً للجمهورية الإسلامية العام المقبل. ما من جنرال واحد من بين 12 من كبار الجنرالات الإسلاميين يستطيع ملء الفراغ الذي تركه سليماني. ومع ذلك، اضطرت طهران إلى تجاهل الدعوات لتصعيد الموقف بشن هجمات انتقامية خطيرة.
الأهم من ذلك، أنه ربما تجري إثارة فكرة استرضاء ترمب علناً في طهران؛ وإن كان ذلك في إطار الخطاب السلبي المعتاد. فقد زعمت صحيفة «كيهان» اليومية، التي يعتقد أنها تعكس آراء خامنئي، الثلاثاء الماضي، في خطاب أرسله السفير السويسري، أن طهران «قد أشارت إلى اتفاق» للعودة إلى الاعتراف الفعلي بـ«النظام الصهيوني»، ونزع سلاح فرع «حزب الله» اللبناني والتوقف عن دعم جماعة «حماس». لم تذكر «كيهان» من قام بتوقيع الرسالة ومتى ولمن قام بنقلها السفير السويسري؛ الذي يمثل المصالح الأميركية في إيران.
كانت إيران واحدة من أول دولتين ذواتَيْ أغلبية مسلمة تعترفان بتأسيس دولة إسرائيل. وفيما اعترفت تركيا بإسرائيل اعترافاً كاملاً بحكم القانون، فقد اختارت إيران خيار الأمر الواقع الأدنى درجة. جاء اعتراف تركيا على هيئة إعلان من وزارة الخارجية في أنقرة، بينما أقرت إيران قانوناً صدر عن البرلمان، مما أعطى قرارها مهلة قانونية أكبر. ولأن هذا الفعل لم يتم إلغاؤه تحت أي قانون في الجمهورية الإسلامية، فإنه يمكن لطهران العودة إلى الاعتراف بإسرائيل بإعلان بسيط.
لم تعد إيران تتمتع بميزة الوصول إلى تلك الكميات الهائلة من المال السهل الذي تجلبه صادرات النفط، ولذلك؛ فإن اليأس يتمكن من القيادة الخمينية من أن تخفف إدارة ترمب من قبضتها. ولأن المرشد الأعلى حريص دائماً على عدم فقد ماء وجهه، فقد قام بتعديل بعض من سلوكه، مؤكداً وجهة النظر القائلة بأن القطار الخميني، الذي لم يكن لدى محمود أحمدي نجاد أي وسيلة عكسية له، لن يتوقف إلا إذا كان أمامه جسم صلب سيصطدم به.
ولأن الأنين بات عالياً في طهران، فيبدو أن القطار الشارد قد اصطدم بشيء صلب بالفعل. وبالتأكيد فقد ساعدت انتفاضتان شعبيتان متعاقبتان على زعزعة أركان النظام الذي يبدو غير قادر على إعادة الاتصال بالمجتمع الإيراني الأوسع.