بقلم -أمير طاهري
هل هذه نهاية العولمة؟ هذا هو السؤال الذي كان من المفترض أن نناقشه في ندوة في باريس الأسبوع الجاري قبل أن تأمرنا جميعاً الحكومة «بحصر» أنفسنا في مساكننا على الأقل خلال الخمسة عشر يوماً القادمة.
لقد حقق مفهوم العولمة تداولاً واسعاً عندما بدأت السلع الرخيصة التي صنعتها عمالة زهيدة الأجر في الصين في إغراق الأسواق العالمية من طوكيو إلى تمبكتو. وبالتالي، إذا كان للعولمة أن تنتهي، فمن الإنصاف أن تنتهي أيضاً مع ضجة صينية على هيئة فيروس «كورونا».
قبل العولمة، كان ما يحدث في الصين يصل إلى بقية العالم على أنه صدى بعيد. فمن حروب الأفيون الى سلسلة المجاعات السوداء، والفظائع التي ارتكبها مختلف المحتلين الأجانب، والحرب الأهلية، والحرب الكورية، وضم التبت وتركستان الشرقية، وموت الملايين تحت حكم ماو تسي تونغ، جميعها كانت أحداثاً غريبة في أرض فانتازيا نائية أثرت على بقية العالم بشكل عرضي فقط. كانت الصين، المذهلة والمخيفة على حد سواء، حاضرة دوماً في أحلام الحكمة الشرقية وفي العديد من حالات الرهاب من «الخطر الأصفر» التي حذرنا منها قيصر ألمانيا ولهلهم الثاني.
فبعد أقل من ثلاثة عقود من بداية العولمة، أدرجت الصين في أحداث عالمنا اليومي وتعرضت لحظر من دول العالم بوصفها قوة اقتصادية كبرى تسعى للوصول إلى الموارد والحصول على حصة متزايدة من الأسواق.
في بداية العولمة كان الاقتصاد الصيني لا يمثل سوى ثلاثة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، واليوم ارتفعت حصة الصين إلى حوالي 20 في المائة. رسخت الصين أقدامها كمركز تصنيع رئيسي في العالم وساهمت على مدر عقدين كاملين في خفض معدلات التضخم وتحقيق النمو الاقتصادي الذي انتشل مئات الملايين من البشر من براثن الفقر في جميع القارات. وفي الوقت ذاته، بدأت الصين تنفتح للعب دور قوة أكبر.
حتى وقتنا الحالي، يعتبر النموذج الذي اختارته الصين هو الأقرب إلى نموذج هولندا خلال فترة بناء الإمبراطورية، أي التركيز على الأعمال والتجارة والتوجيه بعيداً عن الانخراط في السياسة، سواء محلياً أو دولياً، على عكس الاستراتيجيات الاستعمارية البريطانية والفرنسية التي تضع الهيمنة السياسية على رأس جدول الأولويات.
ومع ذلك، هناك دلائل تشير إلى أن الصين قد تضع إستراتيجية جديدة تجمع فيها بين الهيمنة السياسية الأكثر تشدداً في الداخل مع صورة أكبر للقوة الكبرى في الخارج. هل تسير الصين بالطريقة التي سلكتها القوى الاستعمارية الأوروبية بعد مؤتمر برلين؟
أفضل إجابة هي أنه حتى لو تبنت الصين مثل هذه الاستراتيجية، فلن تكون قادرة على تنفيذها. فقد جمعت القوى الاستعمارية الأوروبية في مؤتمر برلين بين سعيها للأمن في الخارج وتحقيق الديمقراطية في الداخل. في الصين اليوم، نشهد تكويناً مختلفاً، ففيما يتعلق بجميع جيرانها تقريباً، باستثناء باكستان باعتبارها غير موثوقة إن لم تكن معادية بالنسبة لها، فإن الصين تعمل على زعزعة الأمن من خلال اظهارها لقوتها العدوانية. وقد جرى تسليط الضوء على هذا الخيار العدواني بخطط طموحة لتطوير قوة بحرية في المياه الزرقاء على غرار قوى القرن التاسع عشر قادرة على تحدي الولايات المتحدة في المحيط الهادئ والمحيط الهندي.
يقترن شعور الصين بعدم الأمان في الخارج بالأسلوب الاستبدادي المتزايد للرئيس شي جينبينغ في الداخل. فالأصدقاء الصينيون الذين رحبوا بصعود شي إلى السلطة بوعد بالتحرر يشعرون الآن بالندم على ما
يسمونه «أوهام الطفولة». من المؤكد أن الصين في عهد شي ليست بالتأكيد قمعية مثل الصين في أوج عهد الرئيس ماو. وبصرف النظر عن الأويغور والتبتيين الذين يخضعون لسيطرة أكثر صرامة، لا يزال معظم الصينيين يتمتعون بالحريات التي لم يكن لهم أن يحلموا بها قبل أن يضع دنغ شياو بينغ البلاد في مسار مختلف. حتى في هونغ كونغ التي تتفجر بالاحتجاجات، فإن بكين لم تخلع قفازاتها بعد. ومع ذلك، يبدو التفاؤل الذي لاحظناه في رحلتنا الأخيرة إلى الجمهورية الشعبية في عام 2014 حلماً بعيد المنال.
هل جاء فيروس «كورونا» اللعين نتيجة لاتجاه الصين نحو سرية أكبر وسيطرة أكثر إحكاماً؟ ما من شك في أن الكبار في بكين كانوا على علم بتفشي الوباء قبل أسابيع من اعترافهم به رسمياً. ومن الممكن أيضاً أن تكون الاعتبارات المنقذة لماء الوجه ومحاولات إخفاء الأشياء قد ساهمت في التأخير في اتخاذ القرارات اللازمة لمنع الوباء من أن يصبح عالمياً.
وكما هو الحال دائماً، يثير الخوف وانعدام الأمن القوميات التافهة التي تعتبر العولمة عدواً قوياً. فقد كانت الانتخابات المحلية، التي جرت الأحد الماضي في فرنسا، بمثابة الاختبار الأول للمزاج العام في ديمقراطية كبرى بعد فيروس «كورونا»، لتعطي المرشحين الوطنيين الصغار دفعة كبيرة ضد المنافسين المدافعين عن العولمة. إن إغلاق الحدود في جميع أنحاء العالم مستوحى أكثر من الرغبة في طمأنة الناس بأن إبعاد «الأجانب الحاملين للفيروسات» لهو أداة أقوى من أي نموذج علمي مثبت للتعامل مع الوباء.
ومع ذلك، من الواضح وبصورة متزايدة أنه لا يمكن التعامل مع وباء عالمي بالجهود المحلية وحدها، وأن هناك حاجة إلى حشد أكبر للموارد لإنقاذ المجتمعات الأكثر عزلة من الكارثة الكاملة. كما أن التعاون العالمي مطلوب لتسريع تطوير اللقاح، وجعله متاحاً للأغنياء والفقراء على حد سواء.
ناهيك عن الحاجة إلى تعاون عالمي للتعامل مع العواقب الاقتصادية لما قد يتحول إلى أخطر أزمة منذ عشرينات القرن الماضي والتي دفعت العالم إلى حافة الهاوية.
بعيداً عن الدعوة إلى دفن العولمة كمفهوم، قد نضطر إلى العمل من أجل إعادة إحياء مفهوم العولمة في إطار مفهوم أوسع يتجاوز القضايا التجارية والاقتصادية ليشمل المجالات الأخلاقية والثقافية والسياسية أيضاً.
من المؤكد أن هذا لا يعني أننا يجب أن نتوافق جميعاً مع نموذج واحد للوجود، وهو أمر تتجنبه الطبيعة البشرية. لكن النظام العالمي المستند إلى القواعد يمكن أن يعني أيضاً وجود مقياس للشفافية والمشاركة الشعبية في صنع القرار والتدفق الحر للمعلومات وتقاسم منهجي للموارد العلمية والتكنولوجية للتعامل مع حالات الطوارئ العالمية.
يجب أن يذكرنا الوضع الشبيه بالحرب الذي فرضه فيروس «كورونا» بأن علينا جميعاً تقريباً، أغنياء وفقراء، أن نعيش في واقع عالمي واحد يمكن أن تؤثر فيه رفرفة أجنحة فراشة في الأمازون على العالم بأسره.