في سياق موجة الثورات الجديدة التي تعرفها المنطقة العربية، وما يرافقها من تصعيد في الثورات المضادة التي يراد لجيوش بعض الدول العربية أن تقودها، جمعتني أخيرا جلسة على هامش لقاء دولي بعدد من الأصدقاء المتابعين للشؤون السياسية من بعض الدول العربية، ما حوّل الجلسة إلى قراءات وتساؤلات متقاطعة حول ما يجري في مختلف الدول العربية.
كنت شخصيا مهتما بمعرفة أقصى ما يمكن حول ما تعيشه بعض الدول من خلال عيون تنظر إليها من الداخل، بغض النظر عن تموقعاتها السياسية والإيديولوجية، وفي الوقت نفسه استطلاع آراء هذه العيون حول المغرب، في نظرة خارجية. فتحت النقاش بسؤال وجهته إلى الأصدقاء التونسيين الحاضرين، حول ما ينتظر من الانتخابات الرئاسية المرتقبة بعيد الصيف المقبل.
ابتسم صديقي التونسي وقال في تعليق مقتضب، كما لو أنه يحاول عدم إطالة النقاش: «تصوّر فقط ما سيكون عليه بلد في عهد رئيس كان مديرا للأمن الوطني في بداية الستينيات وأصبح وزيرا للداخلية بعد ذلك. أكثر ما يمكن أن يفرح به التونسيون هو أن هذا الرجل يعدهم بألا يترشح من جديد». حاول الصديق التونسي إرجاع الكرة بسرعة، وأنهى حديثه بإثارة ما يجري في المغرب: «يا أخي، ما هذا الذين يحصل عندكم؟ هذه الاحتجاجات التي يقوم بها الأساتذة ومواجهة الأمن لهم مخيفة».
حاولت أن أوضح طبيعة الملف الذي تحوّل إلى مشاهد مخيفة في الشارع، باعتباره ملفا اجتماعيا يرتبط بالتوازنات المالية الكبرى، لكن صديقي التونسي قاطعني: «هذا غير مهم، نحن أيضا نعيش إضرابات مماثلة للأساتذة، حيث يرفضون إجراء الامتحانات أو يجرونها ولا يسلمون النقط، لكن المغرب كان بالفعل حالة استثنائية خلال الربيع العربي، ودعني أقول لك بصراحة إننا كنا نعتبركم محظوظين، لكن ما نشاهده الآن سيجعل رؤوس الأموال والاستثمارات تهرب منكم».
صديق لبناني حضر الجلسة حاول مشاكسة مصريين كانا يتابعان النقاش في صمت: «وأنتم؟ ألن تقولوا شيئا عن الاستفتاء والدستور الذي يسمح للرئيس بالبقاء في الحكم إلى غاية 2030؟». أجاب أحد المصريين بالقول إن ما ينبغي الانتباه إليه قبل نتيجة الدستور التي آلت إلى «نعم» هو نسبة المشاركة التي لم تتجاوز 44 في المائة، رغم الدعاية المكثفة والقبضة المحكمة للسلطة على مفاصل المجتمع». وكمن يعيد الكرة إلى من ألقى بها إليه، أنهى الصديق المصري حديثه بمساءلة اللبناني: «وأنتم، ما موقعكم من الإعراب في ما يحصل في المنطقة؟».
الجواب لم يكن على قدر كبير من التهرب، حيث اعتبر هذا العارف بالمجال الإعلامي، أن الصحافة اللبنانية دفعت ثمنا باهظا للتحولات التي تعرفها المنطقة العربية. «لاحظوا كيف أننا أصبحنا ندفع ثمن الانقسامات العربية من خلال الأزمات السياسية والاقتصادية التي نعيشها بفعل ارتباط القوى السياسية اللبنانية بهذا الطرف أو ذاك. لكن الصحافة المسكينة دفعت أكبر ثمن حين قررت بعض الأطراف الخليجية سحب أموالها التي كانت تضمن وجود الكثير من الصحف، ما أدى إلى انهيارات متتالية للمؤسسات الإعلامية».
وجّهت دفة النقاش نحو أحد العراقيين الحاضرين في تلك الجلسة، وسألته: «أنتم في العراق عشتم تجربة الإطاحة بالرئيس الدكتاتوري منذ 15 عاما، لكن عبر تدخل أجنبي مباشر، ألا تشعرون اليوم بأنكم كنتم أول ضحية لركوب القوى الدولية على تطلعات الشعوب، لتحول حلمها بالحرية إلى كابوس عنوانه تفكيك النظام الإقليمي واستباحة المنطقة؟».
حاول الصديق العراقي المنحدر من منطقة كردستان أن يحافظ على هدوئه رغم ما بدا عليه من غضب، وخاطبني قائلا: «صديقي، يمكنك أن تقرأ وتحلل ما يقع والنتائج التي ترتبت إليه كما يحلو لك، لكن، لا تنتظر مني بتاتا قبول أي مقارنة بين العهد الحالي وعهد صدام». سألته مستغربا: «هل كان عهد صدام يعرف هذا الحجم من العنف والاقتتال والتفجيرات وداعش؟ هو على الأقل كان يمنع ذلك».
عاد الصديق العراقي ليصرّ: «أفهم ما تقوله لأنك تعيش بعيدا، لكنك لو عشت يوما واحدا تحت حكم صدام لتمنيت الجحيم على ألا يستمر في الحكم. لا يمكنك أن تتصوّر ثمن ذلك الاستقرار الذي تتحدث عنه والذي دفعه العراقيون من حرياتهم في السجون والتعذيب والقتل… نحن لا نعيش النعيم حاليا، لكن على الأقل لدينا برلمان منتخب ورئيس كردي، ولا أحد يفرض على الآخرين أفكاره وقوانينه…».
حين بدا أننا استنفدنا المواضيع الساخنة للمنطقة العربية، ونوشك على إنهاء النقاش، بادر صديق أردني، كان يتابع أحاديثنا بتأمل وصمت، إلى التعليق تلقائيا: «هناك الكثير من السلبيات والإيجابيات في كل ما قلتموه، لكنني أتساءل: لماذا نحن في الأردن لا نعيش أي شيء مما تعيشونه؟ يا أخي، لا شيء عندنا يتحرك، الحكومة والمعارضة يتفقون ويختلفون على الأشياء نفسها، لكن لا شيء يتغير أو يوحي بالتغيير. لا يهمني مآل الأمور، لكنني تمنيت لو عشنا شيئا مما تعيشونه حتى نقول إننا حاولنا على الأقل».