بقلم : مكـرم محمـد أحـمد
أعتقد أنه آن الأوان لحديث واضح و صريح عن الاعلام المصرى فى صحافته المقروءة وشاشته المرئية يتجاوز عملية جلد الذات التى أمعن فيها كثيرون، ظنا منهم أنهم يبرئون ساحاتهم لكنهم فى الحقيقة يطلقون سحابة دخان كثيف تحجب رؤية أبعاد الحقيقة لحساب ظنون ذاتية، ويتغافلون عن اسباب موضوعية واضحة ومباشرة اقتصادية وسياسية واجتماعية أدت الى هذه الظواهر الجديدة التى تتمثل فى ضمور أعداد القراء ونقص التوزيع وغياب المنافسة وضعف المحتوى وقلة الابتكار، رغم شيوع نماذج كثيرة جيدة، تؤكد أن الاصلاح ممكن خاصة ان للصحافة المصريه تاريخا مجيدا يصعب بل يستحيل ان يطويه النسيان.
كما ان جزءا كبيرا من المشاكل التى نعانى منها الان يتعلق بغياب المهنية والاخلاق جريا وراء سباق كاذب استشرى خطره فى ظل الفوضى العارمة التى أصابت الدولة عقب أحداث ما يسمونه الربيع العربى التى كسرت سيادة الدولة الوطنية فى سوريا وليبيا والعراق واليمن، و ضيعت سيادة القانون فى اكثر من 4 دول عربية و اهدرت معايير اساسية تتعلق بشوائب الوحدة الوطنية وفتحت الابواب امام رياح سموم قاتلة جاءت مع وثوب جماعة الاخوان الى السلطة وتمدد نفوذ طهران وظهور وكلاء عديدين لايران فى المنطقة أبرزهم الحوثيون فى اليمن وحزب الله فى لبنان وعديد من القوى الفلسطينية التى توهمت ان عودة الحق الفلسطينى رهن بسقوط الدولة الوطنية.
وما من شك أن الوضع قد اختلف كثيرا الان وانزاحت الغمة، وعرفت مصر طريقها الصحيح لنهضة حقيقية غيرت وجه الحياة فى طول البلاد وعرضها و تحقق الامن والاستقرار ، وظهرت مؤشرات التنمية واثارها الواضحة فى هبوط معدلات البطالة الى ما دون 8.5 فى المائة وقويت قدرة الدولة والمجتمع المدنى وكذلك توفير وظائف جديدة للشباب. وجاوزت معدلات النمو 5.5 فى المائة، ومع ذلك يندر ان نقرأ فى مصر مقالا او تعليقا لا يتحدث عن ازمة الاعلام المصرى على كل المستويات، رغم ان السبب الواضح للازمة هو الاستسهال وغياب الجودة والاتقان والافتقار للمعايير المهنية و الاخلاقية الاساسية، وصعوبة اصلاح ما اهترأ بالفعل، إلا ان البعض يصر على المغالطة وخلط الاوراق حتى اصبح مشروعا ان يسأل الانسان نفسه ، لماذا هذا الاسراف فى جلد الذات وهل الصحافة والاعلام فى مصر اصبحتا فى وضع أسوأ مما كانتا عليه فى حكومة جماعة الاخوان؟، عندما كان محمد مرسى يهدد الصحفيين والاعلاميين علنا بالاسم، ويتوعدهم بأسوأ مصير، ام ان البعض منا ارتضى لنفسه دور الببغاوات، يكرر بصورة او اخرى ما تنشره صحافة الغرب وجماعة الاخوان عن أعتقال عشرات الصحفيين و جميعهم من غير العاملين او المقيدين فى جداول النقابة؟ وما يهمنا هنا هو ان نقطع الشك باليقين لنؤكد ان فلول جماعة الاخوان واعوانهم ربما يتسببون فى محاولة تضليل الرأى العام و نشر الشائعات ، لكن جماعة الاخوان كسرت بصورة نهائية على مستوى الداخل المصري، فى الوادى والدلتا وهى تلفظ انفاسها على المستوى الوطنى والاقليمى والدولي، ويزداد اقتناع العالم يوما بعد يوم بأن هذه الجماعة التى كانت «أس الفساد» وحاضنة الارهاب والتى من تحت معطفها خرجت كل جماعات العنف والكراهية فى مصر والعالم العربى، كما ان راعيها الذى يدعمها فى العلن (الرئيس التركى رجب طيب أردوغان) يعانى من الفشل والعزلة، وبات واضحا للاتراك قبل العالم اجمع، انه لم يعد هناك امل فى شفاء تركيا من عللها المتفاقمة فى ظل بقاء اردوغان فى السلطة ،الذى يكاد يكون الان خارج السباق العالمى ينتظر مصيره المحتوم.
ولا أظن ان حادث الهجوم الغادر على إحدى النقاط الامنية فى شمال العريش رغم نتائجه المؤلمة يمكن ان يغير كثيرا من مجمل الصورة فهزيمة الارهاب قد وقعت بالفعل، ولا مجال لتبديلها ، وسيناء محروسة بعون الله وجهود ابناء الجيش والشرطة ووعى اهل سيناء وشيوخ قبائلها.. واذا كنا على يقين بان القصاص سوف يتم عاجلا، ويلقى المعتدون حتفهم المحتوم كما حدث فى كل المرات السابقة، فاننا لا نمل ان نذكر الجميع بضرورة اليقظة المستمرة وسد كل الثغرات التى يمكن ان تنفذ منها يد الارهاب الغادر.. وأظن أنه من حق مصر وقد وضح للعالم اجمع دناءة الموقف التركي، ان تلاحق تركيا بالعقاب كما ان من واجب العالمين العربى والاسلامى وفى القلب منهم سكان الخليج ان يستثمروا الدعم الضخم الذى حدث فى قمم مكة الثلاث من اجل التأكيد على اجراءات حاسمة وفعالة تطول كل المحرضين ، فلابد من عقاب تركيا وقطر وكل بلد آثم يتعاون مع الارهاب ويعطيه ملاذا آمنا وييسر له ارتكاب جرائمه النكراء، على الدول العربية والاسلامية وان تذهب بعصا المعلم الى مجلس الامن من اجل موقف دولى حاسم يلزم الجميع بالاصطاف الموحد ضد الارهاب، لا يشذ عنه اى من اعضاء المجتمع الدولى وصبرا آل ياسر فإن فرج الله قريب.
والواضح ان قلق الصحافة والاعلام المصرى يتعلق فى معظم اسبابه بمخاوفهما المستقبلية بأكثر من ان يكون نتيجة جهود جماعة الاخوان وتآمرها، كما يتعلق بغياب اليقين بمستقبل واضح للصحافة والاعلام فى مصر فى ظل متغيرات عالمية ادت الى انحسار ملحوظ فى دور الصحافة الورقية، وظهور الوان وأدوات عديدة اسرع واقل كلفة فى الاتصال والتواصل ضيقت الخناق وسحبت من تحت بساطها قدرة (السبق الصحفي) ، لان ادوات التواصل الجديدة باتت تملك القدرة على معايشة الحدث عند وقوعه وكذلك تطوراته اولا باول تنقله فى التو واللحظة، الامر الذى خلق مصاعب جديدة للصحافة والإعلام لم يعد من السهل تجاوزها دون اتقان مهنى عال ومعرفة عميقة بأبعاد المشكلات وتأثيراتها المتبادلة، ودون القدرة المستمرة على الابتكار والتحديث ودون اصلاح ادارى وتنظيمى ضخم ويختصر الكلفة والوقت ويعالج المشكلات المتراكمة التى تحولت الى قيود تعوق التقدم بما يجعل الصحافة تعود مرة اخرى والإعلام اكثر اعتمادا على نفسيهما وتصبحا اكثر قدرة على اعالة نفسيهما وينتهى هذا الوضع السفيه الذى يصعب استمراره لكلفته الباهظة لان الخزانة العامة تتحمل الآن جميع انواع التكلفة بما فى ذلك الاجور والمرتبات واثمان الحبر والورق ومتطلبات التطوير والصيانة بعد ان توقفت الصحافة والاعلام عن الاعتماد على نفسيهما واظن ان الامر يتطلب علاجا صارما وجذريا على طريقة الرئيس عبد الفتاح السيسى كما يتطلب اعادة نظر شاملة فى دور نقابات الصحافة والاعلام وكليات الاعلام التى تخرج كل عام الالف من الاعلاميين والصحفيين لايجدون فرصة تحقيق ذواتهم بسبب اكتظاظ المؤسسات الصحفية ودور الاعلام باعداد هائلة من العاملين تفوق احتياجاتها الحقيقية.
واظن ان الصيغة الراهنة التى تسمح بوجود صحافة قومية تصون وحدة المجموع الوطنى وتعبر عنها الآن خمس مؤسسات اعلامية قومية قد اثبت بالفعل جدواها ,حافظت على وحدة المجموع الوطنى ولم تشكل عائقا امام التقدم واينعت حدائقها بظهور كفاءات غالية نافست بل على مستوى العالم اجمع , وهى تضم الان اكثر من 70 فى المائة من الاصدارات الصحفية والاعلامية وأكثر من 60 فى المائة من العاملين فى الصحافة والاعلام خاصة ان هذه الصيغة تسمح بوجود قطاع خاص عريض من حقه ان يصدر صحفا بما يؤكد التنوع الذى يشمل كل صور الملكية, كما ان من حق القطاع الخاص ان يطالب بكل صور المساواة الكاملة فى الحقوق و الواجبات كى تعود الأمور الى اصولها الصحيحة و ينابيعها ويطلب الملكية فى الحقوق من تقرير الواجبات اكثر اعتمادا على ذاتها , لا تستسهل الاعتماد على عون الدولة الذى يكاد يشمل كل شىء، الرواتب والاجور والورق والحبر ونفاقات التشغيل والطباعة والصيانة التى تكلف الدولة هذا العبء الضخم الذى يقدر بـمليارات الجنيهات.
وربما نعانى فى صحافتنا واعلامنا من عدم الشجاعة فى القول كما نؤثر الجلوس فى مكاتبنا المكيفة عن الخروج للعمل الميدانى , ونستسهل ان ننقل عن الصحافات الاخرى بدلا من محاولة استكشاف واقع مشاكلنا بعيون مصرية , لكننا لا نعانى نقصا فى حرية التعبير , ولا تزال مساحات حرية الرأى اوسع كثيرا من معالجاتها المبتثرة , وما يشغلنا فى الاغلب الاعم تفاهات المهنة بما تحويه من فتن وفقاقيع ويزيد من حجم المشكلة اندثار مدارسنا الصحفية المتعددة التى كانت تربى الكوادر والموهوبين وتدفع بهم الى الاعلام، حقهم الواضح فى صدارة المشهد، وفى كل دار صحفية كان هناك أكثر من شيخ ومدرسته مهمتهم تعليم الاجيال الجديدة التى تنمو الآن مثل نبت البرارى بلا رعاية واضحة لكن الامر المؤكد ان علاج هذه الامراض المهنية يحتاج الى المزيد من الانفتاح والمنافسة والتحرك بقدر اوسع من الحرية خارج هوامش السلطة وان نظام الحكم نجح بالفعل فى ان يرسخ أسس استمراره واستقراره ويحقق كل يوم المزيد من الرضا العام والاقتناع بصحة المسار ولم يعد هناك ما يقلق أو يفرض المفاضلة بين الحرية والامن والاستقرار وبرغم وجود ثلاث هيئات مستقلة مهمتها الاشراف والتنظيم والتصحيح تتمثل فى المجلس الأعلى لتنظيم الاعلام والهيئتين الوطنيتين للصحافة والاعلام، الا ان الوشائج التنظيمية التى تربط بين الهيئات الثلاث لا تمكنها من حسن التنظيم وتكامله وتعانى فى مجمل الصورة من نقائص عديدة يسهل علاجها، ولا يصلح لان تكون مبررا لجلد الاعلام المصرى صباحا ومساء.
نعم نعانى كما قلت من صحافة ذات قاعدة بطيئة تكاد تقتصر حركتها على متابعة نشاط الرئيس دون ان تهتم بالتغطية المهنية بكافة الوان النشاط الانسانى. ونعانى من تدخل قلة من الوزراء الذين يملكون فرصة اصدار قرارات غير معلنة وغير مشروعة تمنع افرادا من الصحفيين من الكتابة وجميعها نقائص صغيرة يسهل علاجها واصلاحها فى ضوء تجربة تستهلك بالفعل كل اسباب النجاح ومع ذلك ثمة من يتهمون المجلس الأعلى بأنه احد الاسباب الرئيسية لمناخ القلق الذى يخيم على الصحافة والاعلام، رغم ان قرارات المجلس تقبل الطعن أمام جميع المحاكم ولا تتمتع بأى حجية أو حصانة وبرغم كثرة الاتهامات وسوء التعتيم، فإن المجلس لم يخسر قضية قانونية واحدة ، وجاءت كل تصرفاته وقراراته ومشروعاته متوافقة مع القانون وتلتزم الحد الادنى من الاجراءات العقابية ولم ولن ينفد صبر المجلس، دفاعا عن قيم مهنية واخلاقية لا علاقة لها بالسياسة، لكن مع الاسف لا يزال البعض يفضلها سداحا مداحا تعج بفوضى المصالح رغم ان المصريين تواقون جميعا للإصلاح ويتنسمون اى خطوة يمكن ان تمكنهم من غد افضل ورغم ان الحكم فى امس الحاجة الى صحافة وإعلام جديدين يتمتعان بقدر اوفر من حرية الرأى ويملكان حق الاختلاف المشروع كما يملكان شجاعة الصدق والمواجهة.