جدل كبير وانتقادات لاذعة تلاحق منظومة التعليم فى المغرب، زاد من حدتها، فى الموسم الدراسى الحالي، إدراج اللغة العامية المغربية، فى المناهج الدراسية، ما خلق حالة من الصدمة والاستياء داخل الأوساط الاجتماعية والثقافية والسياسية، لما سوف يتسببه هذا القرار العشوائي، من تراجع على المستوى اللغوي، وفشل على المستوى المنهجي، مما سيزيد من متاعب التعليم والمتعلمين فى المملكة.
أنفق المغرب على قطاع التعليم، خلال العقود الخمسة الماضية، ميزانيات ضخمة (نحو 25% من الميزانية السنوية العامة)، واعتمد استراتيجيات ومخططات عديدة منذ الاستقلال، مرورا بمناظرة المعمورة سنة 1994، ومشروع إصلاح التعليم بإفران من العام نفسه، واللجنة الوطنية المختصة بقضايا التعليم فى نفس العام، والميثاق الوطنى للتربية والتكوين بين 1999 ـ 2009، والمخطط الاستعجالى 2009 ـ 2012، وصولا إلى الرؤية الاستراتيجية 2015 ـ 2030، الا أنه لم ينجح بعد فى تحقيق النتائج المرجوة.
فقد ظل التعليم فى المغرب متراجعا فى هياكله ومناهجه ومضامينه، متخبطا فى مشكلاته المرتبطة أساسا بضعف المردودية. فرغم كل الجهود المبذولة للنهوض بالقطاع وتحسين منهجيته، فإن هذه الاخيرة لا تزال تعتمد على الحفظ، أكثر ما تعتمد على الاكتشاف والتفكير والإنتاج.
إن السياسات التى نهجتها المملكة، على كثرتها وضخامة نفقاتها، إلا انها اتسمت، فى المجمل، بعدم وضوح الرؤية بينها وبين احتياجات الهيكل الوظيفى للتعليم. كما أن غياب فكر تربوى واضح قادر على إنجاز مهام التنمية الشاملة، التى كان المغرب ولايزال يسعى الى تحقيقها، حوّل قطاع التعليم الى حقل تجارب، يجرّب فيه فى كل مرة مخطط جديد، لا يكاد يبدأ حتى يثبت فعليا عدم نجاعته وينتهى بالفشل، الذى لا يعكس فقط فشل المنظومة التعليمية وحدها، ولكن إخفاق وفشل برامج التنمية ككل، والتى لم تستطع استيعاب الاحتياجات الفعلية للواقع المغربي.
قبل سنتين، حذر تقرير سابق لليونسكو، من أن المغرب لن يتمكن من تحقيق أهدافه الخاصة بشأن التعليم قبل 50 عاما تقريبا، مؤكدا أنه فى حال تبنى البلد نفس السياسات الحالية، فإن تعميم إتمام التعليم الابتدائى لن يتحقق قبل سنة 2065. ومؤخرا صنفت ذات المنظمة المغرب فى آخر الترتيب بالنسبة لجودة التعليم، حيث جاء من ضمن 15 دولة الأكثر تخلفا فى التعليم.
ورغم ما تعكسه هذه التقارير من أرقام صادمة ورغم ما أفرزته السياسات والمناهج التعليمية المعتمدة من أنصاف متعلمين وأمية مركبة، فإن المغرب لم يجد بعد خارطة طريق واضحة وفعالة لإصلاح هذا القطاع الحيوي، بل العكس فإنه بالمنهجية الجديدة كمن يتقدم نحو الخلف. فإذا كانت المدرسة المغربية، تعمل فى المجمل، على ايصال المعارف عن طريق اللغة الدارجة، فتلك مشكلة مادام قد عاناها القطاع، لكن أن يصبح محتوى المادة أيضا باللغة الدارجة، فتلك كارثة ستؤدى الى إفراز أجيال فارغة لغويا، فاقدة لهويتها العربية، صعبة الاندماج مع مستويات التعليم الجامعية، واستهلاكية.
ربما هناك من يجد فى الجدل حول إقحام العامية فى المناهج المغربية مجرد زوبعة فى فنجان، أو مجرد أزمة مختلقة، مادامت فى كل الحالات، اللغة الانجليزية هى لغة الإنتاج وان أى برنامج تعليمى لابد أن يدرج هذه اللغة الحية ضمن مقرراته باعتبارها لغة جامعة لكل الأمم. لكن هناك واقعا آخر يجب عدم إغفاله، وهو لغة التدريس فى أى تعليم ناجح هى اللغة الوطنية، وكما قال المفكر المغربى المهدى المنجرة: لا توجد أى دولة فى العالم انطلقت فى المجال التكنولوجى دون الاعتماد على اللغة الأم.
فالدول الرائدة اقتصاديا وتنمويا تدرس باللغة الوطنية فى مدارسها وجامعاتها، وأفضل 500 جامعة دولية فى العالم تستخدم اللغة الوطنية كلغة للتدريس.
إن جدل العامية فى المناهج المغربية يعيد للواجهة، ليس فى المغرب فقط، ولكن فى جل الدول العربية، ضرورة إصلاح التعليم، الذى يبقى مسئولية الدولة ودورها الرئيسى الذى يجب أن تعطيه الأولوية.
فلا يمكن لأى إصلاح أن ينجح دون إرادة سياسية حقيقية تعيد النظر فى هذا القطاع الحساس والمهم، الذى يعد العمود الفقرى لتقدم الأمم والضامن الأساسى لازدهارها واستقرارها. لهذا السبب فالتعليم فى الدول المتقدمة استثمار مهم ومربح حتى فى ظل الأزمات الاقتصادية، لأنه استثمار من أجل المستقبل.
ومن أجل هذا المستقبل الذى نريد لأبنائنا أن يكون لهم دور فى بنائه، لابد من سياسة جيدة فى قطاع التعليم، وربط المسئولية بالمحاسبة، والحرص على ترسيخ مبادئ الجودة والشفافية وتكافؤ الفرص، وتطوير المناهج التعليمية بواسطة خبراء تربويين وخبراء مناهج متخصصين، وإخضاع المعلمين للتدريب عليها، وضمان تكوين مستمر لهم. وكل ذلك من أجل تخليص العقول من ظلام الحفظ، والخروج إلى نور إعمال العقل بالتحليل والابتكار، ومن أجل إفراز أجيال عربية ماسكة بدفة المعرفة من ناصيتها، وليس فقط محشوة بمعلومات مستهلكة وثقافة سطحية، لا تسمن ولا تغنى من جهل، تنتهى صلاحيتها المعرفية بانتهاء السنة الدراسية.