رفعُ الدعمِ عن وِحدةِ لبنان

رفعُ الدعمِ عن وِحدةِ لبنان

المغرب اليوم -

رفعُ الدعمِ عن وِحدةِ لبنان

الكاتب سجعان قزي
بقلم ـ سجعان قزي- المغرب اليوم

بعد أزمةِ الصواريخِ في كوبا (1962) ثم اغتيالِ جون كينيدي (1963)، تَرشّحَ ليندون جونسون لخلافتِه سنةَ 1964. أعدَّ جونسون لحملتِه الرئاسيّةِ فيلمًا دِعائيًّا ناجِحًا عُرِف بـــ"ديزي" (Daisy). نرى فيه فتاةً صغيرةً تَنزعُ أوراقَ زهرةِ أقحوانٍ ورَقةً ورَقة. وما إِن تَصِلُ إلى الورَقةِ الأخيرةِ حتى يُسمعَ صوتُ رجلٍ يَـعُـدُّ بصوتٍ جَهوريٍّ عكسيًّا من عشرةٍ إلى صِفر كأنَّ العالمَ يَقترِبُ من لحظةِ إطلاقِ صاروخٍ نوويّ. وسُرعان ما تَظهرُ صورةُ انفجارٍ هائل، يَعقُبه صوتُ جونسون يقول للأميركيّين: "رِهانُنا أن نَبنيَ عالَـمًا يَعيش فيه كلُّ أبناءِ الله بأمانٍ أو يَغرَقوا في غياهبِ الظُلمات. فليُحِبَّ بعضُنا البعضَ الآخَر لئلا نَصلَ إلى انفجارٍ نووي جديد ونموت".
بعد نحوِ ستّين سنةً لا تزالُ رمزيةُ "ديزي" صالحةً للعالم، وبخاصّةٍ للبنان. هل نريد أن نبنيَ لبنانَ ديموقراطيًّا، حرًّا وآمِنًا وحضاريًّا لنا جميعًا، أم سنواصِل العَدَّ العكسيَّ حتّى الصِفر والعَدْوَ نحو الانفجارِ الوطنيِّ الشاملِ والارتطامِ النهائيِّ؟ سابقًا، بَلَغنا الانفجارَ أكثرَ من مرّةٍ من دونِ أن نَرتَطِمَ، واستَعدْنا الحياةَ وأَكْمَلنا الشَراكة. أما اليومَ، ففي لبنان مَن يُصِرُّ على إكمالِ العَدِّ العكسيّ حتّى الواحدِ وفي ظَنِّه أنّه يُخيفُ اللبنانيّين فيَستَسلِمون قَبل الصِفر، لكنّه سيَخْسَأُ اليومَ كما خَسِئَ سِواه بالأمس. فاللبنانيّون لا تُخيفُهم الأصفارُ والأرقامُ والأعداد. يوجدُ في لبنان مَن يَقتلُ "ديزي" ويحافظُ على الرجلِ الذي يُقرِّبُنا من ساعةِ الصِفر. هؤلاءِ نَزعوا أوراقَ جميعِ زهورِ الأُقْحوان وسائرِ الزهور، وآثَروا العيشَ في الظُلمات. وَلِعوا بساعاتِ الصِفرِ وبأصواتِ الانفجارات. نَشروا روحَ العَداءِ المختَلَقِ كأنّنا لسنا جميعًا أبناءَ الله، ولا أبناءَ وطنٍ واحدٍ وأبناءَ قرى ومدنٍ واحدة. لماذا النزعةُ العدائيّةُ المجانيّةُ والعبثيّةُ تَطغى على إرادةِ الشراكةِ والحياة؟
نَرانا نَعيشُ حالةً ساديّةً مُنطويةً على حالةٍ مازوشيّةٍ في مواجهةِ حالةٍ نَيْرونيّةٍ مَبعثُها حالةٌ يُوضاسِيّة. هكذا نتبادلُ العذابَ والتعذيبَ والإجرامَ والخيانةَ. أصْبحنا أَسْرى هذه العُقدِ المأسويّةِ، ونحن وُلِدنا لنكونَ عُصارةَ حضارةِ هذا الشرقِ الذي هو أصلًا لقاءُ نورَين: الله والشمس.
جميعُ القِوى اللبنانيّةِ ارتكبت الأخطاءَ والخطايا والذُنوب، لكنَّ حزبَ الله فاقَهم جميعًا حتّى أصبح، منذ سنةِ 2004، "رمزَ" مشاكلِ لبنان وصوتَ الانفجار. الآخَرون تراجَعوا، ولو أخيرًا، عن مشاريعِهم حين اصْطدَموا بوِحدةِ لبنان والشراكةِ الوطنيّةِ ووجودِ الدولة. أمّا هو، فجعلَ هذه "المقدَّساتِ الوطنيّةَ" هدفَ رماياتِه.
حاول جميعُ الأطرافِ اللبنانيّين مقاربةَ موضوعِ حزبِ الله من زاويةِ سلاحِه وتَجاهلوا مشروعَه، فاقترَحوا الحوارَ معه والشَراكةَ في الحكمِ والاستراتيجيّةَ الدفاعيّة. جميعُ المحاولاتِ باءت بالفشلِ لأنَّه يعتبرُ سلاحَه جُزءًا من مشروعِه الدينيِّ المضادِّ الوجودَ اللبنانيَّ بما فيه الشيعيّةُ اللبنانيّةُ التاريخيّة. هُوّيةُ الشيعةِ في لبنان، وعقيدةُ حزبِ الله في #إيران.

لقد غَيَّر حزُب الله لبنانَ واقعيًّا من دونِ عَناءِ عَقْدِ مؤتمر ٍتأسيسيٍّ. صار هو النظامَ والسُلطاتِ والقرار. يُنفِّذُ ما يريد ويُعطِّلُ ما غيرُه يريد. أقام السلامَ في الجَنوب وخَلقَ أجواءَ حربٍ مع اللبنانيّين. وَضعَ يدَه على دستورِ الاستقلالِ ودستورِ الطائف، وتركَ الآخَرين يتصارعون على صلاحيّاتٍ مَجازيّةٍ فيما الصلاحيّاتُ الحقيقيّةُ بين يدَيه. قام بانقلابٍ مستمرٍّ، وأهلُ "الثورةِ" لم يـتَّفقوا بعدُ على بنودِ التغيير، ولا أخصامُه على تكوين جَبهةٍ وطنيّةٍ تواجِهُ عبثَه بحياةِ اللبنانيّين وبمصيرِ لبنان. حَصَر في ذاتِه الموالاةَ والمعارضَةَ وأنهى سلفًا الانتخاباتِ في مناطقِه. يَتفرّجُ على الموالين يَعُدّون أصواتَ الناخِبين المقيمين، وعلى المعارضين يَجمعون أصواتَ الناخِبين المهاجِرين. صحيح أنَّ حزبَ الله لم يَتمكَّن ـــ بَعد ـــ من كَفِّ يدِ المحقّقِ العدليّ، لكنّه عطّلَ التحقيقَ والقضاءَ ومجلسَ الوزراء. صحيحٌ أنّه عَجِزَ عن منعِ تأليفِ المحكمةِ الدُوَليّة، لكنه ضَربَ عُرْضَ الحائطِ بأحكامِها. صحيحٌ أنّه لم يُلغِ القراراتِ الدوليّةَ بشأنِ لبنان، لكنه يُعرقِلُ تنفيذَها. صحيحٌ أنّه لم يَفرِض خطَّ التفاوضِ البحريِّ مع إسرائيل، لكنّه جمَّد المفاوضاتِ حول تثبيتِ الحدودِ اللبنانيّة/الإسرائيليّة. صحيحٌ أنّه لم يُقسِم اليمينَ مثلَ رئيسِ الجُمهورّية، لكنّه يتَّخذُ القراراتِ كأنّه رئيسُ جُمهوريّة.
يَتصرّفُ حزبُ الله كأنّه مرتاحٌ إلى وضعِه طالما لا تُواجِهُه الشرعيّةُ اللبنانيّةُ بمؤسّساتِها، وما دام المجتمعُ الدوليُّ لا يَتدخّلُ فعليًّا سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا للحدِّ من نفوذِه وهيمنتِه. لا يبالي بالعقوباتِ الأميركيّةِ وبالتصريحاتِ الدوليّةِ العقيمة، ويراهنُ على قرفِ العالمِ من لبنان. وإذا كان ينزعُ أوراقَ الأقحوان كلَّها فلأنّه يَعتقد أنَّ دفعَ لبنانَ نحو الانهيارِ الكاملِ والشاملِ سيُحبِطُ الدولَ الصديقةَ في العالمين العربيِّ والدوليّ، ولا تعودُ متحَمِّسةً لإنقاذِ "دولةٍ محروقة"، فيضعُ يدَه نهائيًّا على البلاد. لكنَّ توقعاتِ حزبِ الله صعبةُ التحقّيق لأنَّ مشكلتَه ليست مع اللبنانيّين فقط، إنّما مع مجموعِ هذه الدولِ الصديقة. وفي سياقِ هذا المنطِق، يُفترضُ بدولِ الخليجِ أن تُعزِّزَ دورَها في لبنان بدلَ أن تَنسَحِب منه لئلّا تُعطيَ حزبَ الله إشاراتٍ خاطئةً بل مُشجِّعة.
يا ليتَ حزبَ الله يُدركُ حدودَ القوّةِ وحدودَ الجغرافيا وحدودَ الكلامِ المستَباح. يا ليتَه يَفتحُ كُوّةً في الجدار الفاصلِ بينَه وبين سائرِ اللبنانيّين ليلتقيَ بهم سِلميًّا ويُنقذوا معًا لبنان. لكنّه يَزيدُ مسافةَ الابتعادِ ويَرفُع لهجةَ التهديد. إنَّ إغلاقَ الأبوابِ في بلدِ الانفتاح يُنهي العَلاقةَ الوطنيّة. إنَّ التجاربَ والمِحَنَ كَشفَت مدى انقساماتِنا وصعوبةَ رأبِها مع حزبِ الله وغيرِه عوضَ أن تؤكّدَ وِحدَتنا. نعيشُ في أزمةٍ مجمَّدةٍ ونِزاعٍ متفجِّرٍ. تُحظَّرُ علينا الحلولُ وهي موجودةٌ، ويُسمح لنا بالمشاكلِ وهي مُختلَقة. والأنكى أنَّ الـمُشْرِكين في ولائِهم للبنان يُخوِّنون مُوَحَّدي الولاء. آخِرُ التُـــرَّهات.
لا نستطيعُ أن نُكْملَ المشوار هكذا. تَحرّرنا من دورِ أمِّ الصبيِّ لأنَّ الصبيَّ يكاد يموتُ من شِدّةِ تَناتُشِه وتناتُفِه وتجاذبِه. يَتوسَّلُ إلينا أنْ نَحسِمَ وضعَه. ينادينا أن نَتصالحَ أو نَفترِق. جميعُ الحلولِ أفضلُ من الحالةِ التي يَعيشُها الصبيُّ ونَعيشُها جميعًا. لا قيمةَ للوِحدةِ خارجَ السعادة. لا قيمةَ للوطنِ خارجَ الولاء. لا قيمةَ للمواطنيّةِ خارجَ الحرّية. لا قيمةَ للدولةِ خارجَ الدستور. لا قيمةَ للشراكةِ خارجَ المساواة. ولا قيمةَ للاستقلالِ خارجَ السيادة. إنَّنا نطالبُ بحقِّ استعادةِ لبنان، كلِّ لبنان. والشعوبُ تَعرف كيف تَستعيدُ أوطانَها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رفعُ الدعمِ عن وِحدةِ لبنان رفعُ الدعمِ عن وِحدةِ لبنان



GMT 07:04 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

وزن تأريخ الأردن في التوجيهي 4 علامات.. أيعقل هذا ؟!

GMT 07:01 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

لكنّها الطائفيّة... أليس كذلك؟

GMT 06:58 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

العلويون جزء من التنوّع الثقافي السوري

GMT 06:54 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

سوريا والصراع على الإسلام

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 03:01 2024 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الدفاع الجديدي يهزم حسنية أكادير

GMT 17:39 2024 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

إنستغرام تطلق تحسينات كبيرة على قنوات البث

GMT 03:53 2017 الإثنين ,04 كانون الأول / ديسمبر

فئات الرجاء البيضاوي العمرية تعيش وضعية مزرية

GMT 05:47 2019 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

الملكية البرلمانية

GMT 05:37 2019 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

أفضل الفنادق في فيينا ذات القيمة الجيدة

GMT 07:40 2019 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

إلينا سانكو تفوز بلقب "ملكة جمال روسيا" لعام 2019

GMT 04:53 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

مواطن عراقي يُغرّم شرطة المرور في أربيل 30 ألف دينار

GMT 11:35 2019 الإثنين ,07 كانون الثاني / يناير

فنانات سرقن أزواج زميلاتهن بعد توقيعهم في "شِبال الحب"

GMT 08:41 2018 الأربعاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

إليك أجمل التصاميم لطاولات غرف المعيشة

GMT 21:41 2018 الثلاثاء ,19 حزيران / يونيو

مهرجان وجدة للفيلم يكرم الممثلة المصرية ليلى طاهر

GMT 11:16 2018 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

سعر الريال القطري مقابل دينار اردني الأحد

GMT 04:03 2017 السبت ,30 كانون الأول / ديسمبر

دونالد ترامب يُشدّد على عدالة وإنصاف القضاء الأميركي

GMT 16:19 2017 الثلاثاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

تطورات الحالة الصحة لـ"الزفزافي" عقب أزمة مفاجئة

GMT 12:34 2017 الإثنين ,04 كانون الأول / ديسمبر

توقيف رجل مسن وهو يغتصب طفلًا في الخلاء في أغادير
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib