اكتشَف اللبنانيّون أنَّ جماعةً بدونِ أهليّةٍ اختارت جماعةً بدونِ كفاءةٍ لتَحكُمَ بدونِ حياديّةٍ دولةً موثوقًا في فسادِها. التقَت ذُروةُ نقمةِ الشعبِ وذُروةُ فشلِ السلطةِ وذُروةُ التحوّلِ الإقليميّ، فانفَجر البركان. عَسى أن يكونَ «ربيعُ لبنان» خِلافَ «الربيعِ العربي».
نَشهد حاليًّا انقلابًا، وانقلابًا مضادًّا، وانتفاضة: تَحرّكَت مجموعاتٌ تابعةٌ لحزبِ الله وحلفائِه لقلبِ الطاولة. ردَّت القِوى المضادةُ بتحريكِ الشارعِ في مناطقِها لخلقِ توازن. وبين الانقلابَين انتفَض الشعبُ بطيبتِه وعفويَّتِه وفُقرِه وأَلمِه، وشَكّلت حشودُه قوّةً شعبيّةً موحَّدةً ظاهريًّا، وقوّةً سياسيّةً منقسِمةً عمليًّا؛ والآتي قريب.
تركّزت المطالبُ على رفضِ الضرائب، محاربةِ الفساد، استقالةِ الحكومةِ وحلِّ المجلس النيابي. تَجاهل المتظاهرون القضايا الوطنيّةَ، وهي مصدرُ أزَماتِنا الاقتصاديّةِ والاجتماعيّة. لم يُثيروا سلاحَ حزب الله، ولا إعادةَ النازحين السوريّين، ولا مصيرَ اللاجئين الفلسطينيّين، ولا ترسيمَ الحدودِ، ولا إغلاقَ المعابر، ولا إعلانَ الحياد، ولا العَلاقاتِ مع سوريا، ولا اللامركزيّة. رَفعوا شعاراتٍ تُوحِّدُ الانتفاضةَ وتجنبّوا قضايا قَسَّمت الدولة، وستُقسِّمُهم.
مثلُ الورودِ تَحيا الثوراتُ طالما هي براعِم. لكن ما إن تَتفتَّحْ حتّى يَقطُفَها مجهولون وتَذبُل. هذا قدرُ الثوراتِ في العالم. غالِبيّةُ الثوراتِ تَفشَلُ بُعيْدَ انطلاقِها بسببِ رومانسيَّتِها، أو إثرَ استلامِها الحكمِ بسببِ شهوةِ السلطة. أَهْونُ الخطواتِ النزولُ إلى الشارعِ وأصعبُها الخروجُ منه. وأسهلُ مرحلةٍ الوصولُ إلى الحكمِ وأَعْسَرُها الأَداءُ المختَلِف. تَضيعُ الثورةُ حين تَطرَبُ بحناجرِها وتَنسى بطونَ الناس. وتَغْترُّ الثورةُ حين تُمسي أسيرةَ مطالبِها وتَتعالى على الحلولِ الممكِنة. وتُجهَضُ الثورةُ حين لا تُغربِلُ الطيّبين والعفويّين من الـمُندسّين والمتآمِرين وتُلقيهم خارجَها. وتُسيَّلُ الثورةُ حين تُصبحُ حركةَ «تَحكُّمٍ مروريٍّ» عوضَ حركةِ تَحكُّمٍ بالسلطة. التوقيتُ (اللحظة) هو دائمًا مع الثورةِ، لكنَّ الوقتَ (المماطلة) هو دائمًا مع السلطة. تَسقُط الثورةُ حين لا تُميّز بين الزَخمِ الثورَويِّ المثاليِّ المطلَق ومدى حدودِ التغيير وحاجتِه في البيئةِ المستَهدَفة.
لا يجوزُ أنْ تَقتُلَ الثورةُ الوطنَ وهي تُحيي الدولةَ، ولا يجوزُ أن تَغتالَ الدولةَ وهي تُطهِّرُ مؤسّساتِها، ولا يجوز أنْ تَضربَ قدراتِ الشعبِ واقتصادَ المجتمعِ ونُموَّه وهي تُسقِطُ الطبقةَ السياسيّة. إذا كانت الغايةُ في الثوراتِ تُبرِّرُ الوسيلةَ، فلا يَجوز للوسيلةِ أن تُطيحَ الغايةَ. التغييرُ الجذريُّ، وهو ضروريّ، مستحيلٌ في لبنان من دونِ تغييرِ تركيبتِه. فَلْنَحْلُم بالمستحيلِ ونُحقِّق الممكِن على أنْ يُصبحَ تراكمُ الـمُمْكِناتِ حلًّا جَذريًّا مع الوقت.
الّذين انتفَضوا عفويًّا منذ 17 تشرين الأوّل الجاري هم أساسًا لبنانيّو الـــ 52%. أولئك الّذين، احتجاجًا على قانونِ الانتخابِ الهجين، قاطعوا الانتخاباتِ النيابيّةَ في 06 أيّار 2018. يومَها كانت الانتفاضةُ الصامتة. وها هم اليومَ يصوِّتون في الشارع ويَنقُضون تصويتَ الصناديق، وإليهم انضمَّ نادِمون على تصويتِهم السابق.
الوجهُ الاجتماعيُّ الذي رافق انتفاضةَ الشعبِ لا يَحجُبُ الهوّيةَ السياسيّةَ للأحداث. وعفويّةُ الناسِ الذين مَلأوا الساحاتِ والشوارعَ والمدنَ والقرى لا تُلغي التَسلُّلَ السياسيَّ إلى التجمّعاتِ والتظاهرات. وكونُ المتظاهِرين لبنانيّين فقط لا يَنفي وجودَ بُعدٍ خارجيٍّ للتحرّك. الّذين انسحبوا من سوريا يَنكفئون هنا، والّذين انتصَروا هناك يَتمنَّون أخذَ لبنانَ في «ظهرِ البَيْعة». والذين انقَسموا من أهلِ البيتِ في العراق وَجدوا فروعًا وأنسباءَ لهم في لبنان. وبدا أنَّ «انتفاضةَ العقوباتِ» التي كان الأميركيّون يَتوقَّعونها في طهران، اندَلعَت في بيروت رغم محدوديّةِ العقوباتِ الأميركيّةِ على لبنان مقارنةً بشموليّتِها على إيران. وها نحن أمامَ طلائعِ انتفاضةٍ شيعيّةٍ على الحزبِ والحركةِ بموازاةِ الانتفاضةِ اللبنانيّةِ العامّةِ على العهدِ والحكومة. بات يوجد «جَناحٌ إصلاحيٌّ» شيعيٌّ في لبنان.
أسبابُ الحَراكِ واضحةٌ: وَجَعٌ صار صرخةً، لكنَّ نتائجَه غامضةٌ: الوجعُ صار مَطيّة. عينُ القِوى الداخليّةِ والخارجيّةِ عليه. انتشارُه الجغرافيُّ الشاملُ دليلُ قوّةٍ من جهة، ودليلُ تَبعثُرٍ طائفيٍّ وحزبيٍّ من جهةٍ أخرى. التوافقُ الشعبيُّ ضِدَّ الحكومةِ التوافقيّةِ لا يُرافقُه توافقٌ على ما بعدَ استقالةِ الحكومةِ أو المجلسِ النيابيِّ أو حتى العهد. التظاهراتُ مركزيّةٌ وفِدراليّة. الشارعُ صار «بيتَ الشعب» والاستراتيجيّةَ الدفاعيّةَ وهيئةَ الحوارِ ومجلسَ الوزراءِ ومجلسَ النوّاب.
تفاجأ الناسُ بالنبضِ المسيحيِّ يَستيقظُ بعد سُباتٍ في العاصمةِ والمناطق، بالشِقاقِ الشيعيِّ في قلبِ الجَنوبِ والبقاع، بالاستياءِ السُنّيِ في المدن، بالعصبِ الدرزيِّ في الشوفَين، باستقلاليّةِ المجتمعِ المدنيِّ عن جمعيّاتِه. هذه هي المرّةُ الأولى التي يَبرُز الشعبُ فيها أقوى من الطبقةِ السياسيّةِ والسلطة معًا. فحذارِ أن تَضيعَ هذه الفُرصةُ، كما ضاعت «ثورةُ الأرز» سنةَ 2005. وأصلا إنَّ ثورةَ 2019 هي ثورةُ استلحاقٍ لثورةِ الأرز.
لذا واجبُ الانتفاضةِ اليومَ أن تبادرَ فورًا إلى خلقِ مجلسِ قيادةٍ مستقلٍّ يَضُم شخصيّاتٍ وطنيّةً قادرةً أن تحوّلَ الغضبَ من ردّةِ فعلٍ عارضٍ إلى فعلٍ معارِض، ومن انتشارٍ مُشتَّتٍ إلى جماعةٍ متَّحِدة. فلا قيمةَ لهذا التحرّكِ مهما حَشَد وطالَ ما لم يَتحوّل قوّةً بديلةً قادرةً على إنتاجِ سلطةٍ وطنيّةٍ جديدة. الثورةُ مثلُ «سِباقِ الضاحية»: يجب أن يَصِلَ العَدّاءُ إلى خطِّ الوصولِ لكي تُحتَسَبَ مشاركتُه في السِباق.
الحلولُ المطروحةُ لوقفِ التظاهراتِ مثاليّةٌ في دولةٍ تَنتظمُ فيها الحياةُ الديمقراطيّةُ وآليّةُ تداولِ السلطة. تستقيل الحكومةُ فتؤلَّفُ أخرى مباشَرة، يَحُلُّ المجلسُ النيابيُّ ذاتَه فتَجري الانتخاباتُ في المهلةِ الدستوريّة من دون إبطاء. أما في لبنان، فهذه الحلولُ هي مشكلةٌ إضافيّة، إذ لا شيءَ يَضمَنُ تأليفَ حكومةٍ وإجراءَ انتخابات. فننتقلُ من سلطةٍ سيّئةٍ إلى فوضى قاتلة. قِوى الأمرِ الواقع تُغطي فراغَ الشرعية. لذا يَتحتّمُ الاتفاقُ على حكومةٍ «استثنائيّةٍ» قبل الاستقالة.
التركيبةُ اللبنانيّةُ لا تَفرِزُ منتصرِين من صناديقِ الاقتراع، ولا من حناجرِ الثوّار. تركيبتُنا تَفرِزُ ضحايا، وفي أحسنِ الأحوالِ شهداءَ. لسنا في نظامِ الحزبين أو الطائفتَين، ولا في ثورةِ يقودها تحالفٌ ذو صِدقيّةٍ أو زعيمٌ جديدٌ لم تَلِد مثلَه أمّهاتُنا بَعد. مشكلةُ لبنان هي غيابُ البديل. نَستحِمُّ في المياهِ الآسنةِ ذاتِها. نَرتِقُ الثوبَ ونرتديه. السلطةُ هي المشكلةُ والشارعُ ليس الحل. إنقاذُ لبنان يبقى في الدستورِ والشرعيّةِ والقراراتِ الدوليّة. من خلالِ هذه الثلاثيّةِ نُغيّرُ كلَّ شيءٍ من دونٍ أن نَهدِمَ لبنان. ودورُ الثورةِ أنْ تُجبرَ المسؤولين على احترامِ هذه الثلاثيّة.