عندما استمع اللبنانيون يوم الثلاثاء الماضي إلى تصريحات رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وهو يقف مع الرئيس حسن روحاني في المؤتمر الصحافي بعد محادثاتهما في طهران، تذكّر الكثيرون تلك العبارة المشهورة، التي قالها الجنرال ميشال عون في مارس (آذار) من عام 1989، بعد إعلانه حرب التحرير ضد الجيش السوري، الذي كان يسيطر على لبنان وهي «هزّ المسمار»، بمعنى أن حربه شارفت على اقتلاع مسمار الهيمنة السورية الذي كان قد دق إلى الأعماق.
لا تبدو هذه الذكرى غريبة على الإطلاق، رغم أن المسمار السوري لم يهتز عملياً في ذلك الحين، بل تمكن من اقتلاع عون من بعبدا كرئيس للحكومة العسكرية، بعد الهجوم العسكري وبالطيران، الذي استهدف قصر بعبدا في 13 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1990؛ ذلك أن الكاظمي، منذ تشكيله الحكومة العراقية في السابع من مايو (أيار) الماضي، قام بسلسلة من الإجراءات الوطنية واتخذ عدداً من القرارات الأمنية الداخلية، ونسج خريطة لتحركات سياسية خارجية، تدعو العراقيين مثل اللبنانيين إلى القول إن الكاظمي هزّ فعلاً المسمار الإيراني المغروز في عمق العراق، منذ قرار باراك أوباما الانسحاب من العراق في عام 2008.
من قلب طهران قال الكاظمي كلاماً لطالماً انتظره الشعب العراقي بسبب اتساع الهيمنة الإيرانية على العراق، وحيث يبدو الأمر مشابهاً تماماً للوضع في لبنان؛ ذلك أن فصائل «الحشد الشعبي» التي تأتمر بالإيرانيين، تشكّل جيشاً رديفاً للجيش العراقي، كما أن «حزب الله» بات يشكّل دولة داخل الدولة اللبنانية وله جيشه الذي يضاهي الجيش اللبناني.
قال الكاظمي، إن الشعب العراقي توّاق إلى «إقامة علاقات تعاون مع إيران وفق خصوصية كل بلد، ووفق عدم التدخل في الشؤون الداخلية» ورد عليه روحاني بالقول إن «إيران مستعدة للوقوف إلى جانب الشعب العراقي لإرساء الأمن والاستقرار في العراق والمنطقة»، مشدداً على أن «العراق بلد عربي مهم، ويمكنه أن يلعب دوراً مركزياً في هذا الشأن».
بغض النظر عن أدبيات العلاقات بين الزعيمين، وما تستلزمه من كلام مدروس، بدا تصريح روحاني مناقضاً تماماً لتاريخ طويل من التصريحات وحتى السياسات الإيرانية التي كانت تعتبر العراق نوعاً من الامتداد الإقليمي الاستراتيجي لإيران، والقاعدة الشرقية لجسر الممانعة، الذي سهرت وتسهر على محاولة إرسائه نهائياً، لتكون قاعدته الغربية على شاطئ المتوسط اللبناني عبر «حزب الله»، الذي وسّع نفوذه وهيمنته على القرار اللبناني، إلى درجة استعمال الفراغ الرئاسي عامين ونصف العام لانتخاب حليفه الجنرال عون رئيساً للجمهورية، وإلى قيامه بتشكيل الحكومة الراهنة حكومة اللون الواحد، التي تتبنى في شكل واضح وصريح سياساته التي وصلت إلى حد ربطه بما يسمى محور الممانعة، وكل هذا طبعاً مروراً بسوريا، حيت ينغرز المسمار الإيراني عميقاً، منذ التدخل العسكري لدعم نظام الرئيس بشار الأسد!
لكن هزّ الكاظمي للمسمار الإيراني، لا يتوقف عند التصريح الذي أدلى به أمام روحاني مشترطاً عدم التدخل في شؤون العراق الداخلية، بل إن هذا يأتي بعدما كان قد وصل الأمر مثلاً في 12 مارس من عام 2015، إلى أن يقول علي يونسي، مستشار روحاني آنذاك «إن إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت في التاريخ، وعاصمتها بغداد حالياً وهي مركز حضارتنا وثقافتنا، كما في الماضي»، في إشارة إلى الإمبراطورية الفارسية الساسانية قبل الإسلام، التي احتلت العراق وجعلت المدائن عاصمة لها!
صحيح أنه تمت مساءلة يونسي يومها بسبب تصريحه، لكن هذا لا ينفي أن مظاهر الهيمنة الإيرانية على العراق راحت تتعمق، مع رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، ثم مع الحرب ضد تنظيم «داعش» بعد سقوط الموصل كما هو معروف.
لكن الكاظمي يحمل سياسة جديدة ونفساً جديداً يبدو الشعب العراقي في حاجة ضرورية إليهما، بعد سلسلة المظاهرات الأخيرة العارمة وتزايد حالات الفقر، رغم أن العراق بلد نفطي، وبعد الفساد المتوحش الذي ضرب في أوصال الدولة، ومن الواضح أنه لا يمكن الخروج من هذا النفق طالما أن البلد حلبة مفتوحة للصراع الأميركي - الإيراني المحتدم، بعدما كانت واشنطن سلّمت العراق لإيران قبيل انسحابها.
والكاظمي الذي كان قد بدأ سلسلة من الإجراءات لفرض سلطة الدولة، بدأ في 30 يونيو (حزيران) بتدشين عهد جديد ضد انفلات السلاح، عندما نفذت قوات مكافحة الإرهاب عملية مداهمة ضد مقر ميليشيا «كتائب حزب الله» واعتقلت 14 من عناصرها، ثم أفرجت عنهم، وفي الرابع من يوليو (تموز) أطاح الكاظمي منصبين لرئيس هيئة «الحشد الشعبي» فالح الفياض المقرّب من إيران الذي شغل ثلاثة مناصب أمنية حساسة في آن واحد، وعيّن مكانه الفريق الركن عبد الغني الأسدي، كما عيّن قاسم الأعرجي وزير الداخلية الأسبق في منصب مستشار الأمن الوطني الذي كان يشغله فالح، وهو ما بدا محاولة لكبح النفوذ الإيراني، وخصوصاً بعد سلسلة من التغييرات في قيادات «الحشد الشعبي»، بما يتلاقى ضمناً مع دعوات آية الله علي السيستاني المتكررة حصر السلاح في يد الدولة.
لم تتأخر إيران في إعلان امتعاضها من إصلاحات وقرارات الكاظمي عندما قالت وكالة «مهر»، إنها سياسة لإرضاء الأميركيين، ويبدو أن أولوياته وضع عقبات أمام «مجاهدي الحشد الشعبي»، وترك القوات الأميركية بكل حرية في العراق، «وهو ما يوحي بأن له دوراً خفياً في قراراته التخريبية خدمة للأميركيين»، لكن هذا لم يمنعه من أن يذهب إلى معبر مندلي على الحدود مع إيران ليعلن ضبط الحدود قائلاً إن زمن السرقات قد ولّى، وأن مرحلة إعادة النظام والقانون بدأت.. لن نسمح بسرقة المال العام في المنافذ».
ولأن حديثه عن ضبط الحدود جاء في وقت ترتفع الشكوى من فلتان الحدود اللبنانية - السورية، حيث يتم تهريب المازوت والطحين والمواد الاستهلاكية المدعومة من الدولة، صار السؤال الذي يتردد في بيروت بشكل لافت: أين الكاظمي اللبناني الذي يعيد احترام الدولة؟
على المقلب السياسي تبدو الأمور أكثر إيجابية وتغييرية؛ ذلك أن الكاظمي أعلن في 15 الحالي أنه بصدد السعي لإقامة علاقات إقليمية ودولية متوازنة، وأنه سيقوم بثلاث زيارات كان اللافت والمؤشر المهم فيها، أنها تبدأ بالمملكة العربية السعودية كأول زيارة له إلى الخارج، ثم يذهب إلى إيران ومن بعدها إلى أميركا، وربما يزور بعض العواصم الأوروبية، وأوضحت مصادره قبل أيام أنه يسعى إلى بناء منظومة متكاملة من المصالح المشتركة في علاقات العراق، استناداً إلى مبدأ السيادة الوطنية والإسهام الفعّال في حل الأزمات الإقليمية والدولية من ضمن المصالح الوطنية عبر الحوار والتعاون الثنائي.
يوم الاثنين الماضي حال العارض الصحي لخادم الحرمين الشريفين، من أن يبدأ الكاظمي الزيارة من الرياض، وكان السفير العراقي لدى السعودية قد أوضح حرص الكاظمي على أن تكون زيارته إلى المملكة، الأولى ضمن برنامجه الخارجي، مشدداً على أهمية العلاقة المتميزة بين البلدين العربيين الشقيقين. ومن المعروف أن العاهل السعودي كان قد أعلن في مارس من عام 2018 أن المملكة ستهدي العراق مدينة رياضية متكاملة بكلفة 450 مليون دولار، وذلك من ضمن سلسلة من المشاريع التنموية خلال «قمة إعمار العراق» التي نظمتها الكويت برعاية أميرها الشيخ صباح الأحمد الصباح، وقررت السعودية تقديم مليار دولار مساعدات للعراق!
كان من المثير أنه فور الإعلان عن روزنامة زيارة الكاظمي وبدايتها في الرياض أن يحطّ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف فجأة في بغداد، في وقت تحدثت الوكالات أن الزيارة إلى المملكة تثير قلق طهران وانزعاجها، ولكن ظريف سمع من الكاظمي ومن الرئيس العراقي برهم صالح ما سمعه روحاني من الكاظمي في طهران، من أن العراق يعمل على دعم أمن المنطقة واستقرارها، وأنه يحرص على تأكيد دوره المتوازن والإيجابي في صناعة السلام في المنطقة، وأنه يولي أهمية كبيرة لحماية سيادته وأمنه واستقراره في إطار من الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
أمام كل هذا، ليس غريباً أن يرتفع التساؤل في بيروت: أين الكاظمي اللبناني الذي يهز المسمار الإيراني عندنا كما في العراق؟!