التراشق بالتهديدات بين واشنطن وطهران ليس جديداً، وإن كانت اللهجة تعالت أخيراً، إلى المستوى الذي يذكّر بالتقاذف الذي جرى بين دونالد ترمب وكيم جونغ أون قبل لقائهما وبدء مرحلة جديدة من التفاهم.
طبعاً هناك فرق كبير بين ما تقوم به كوريا الشمالية في المجالين النووي والباليستي، وما تقوم به إيران، إضافة إلى التدخلات والعربدة في المنطقة والشعارات التي ترفعها: «الموت لأميركا»، لكن ما أشعل التراشق بالتهديدات أخيراً لم يكن مضي الولايات المتحدة في العقوبات على إيران منذ خروجها من الاتفاق النووي في مايو (أيار) الماضي فحسب، بل ضغوطها المتصاعدة على الأوروبيين في هذا السياق، وتهديدها بفرض المزيد من العقوبات، أولاً على القياديين في طهران، وثانياً على الدول والشركات التي تطالبها بخفض استيرادها من النفط الإيراني إلى حدود الصفر، في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
كان هذا السياق من المواجهة معروفاً منذ أشهر، ثم فجأة جاء الكلام الساخن من الرئيس حسن روحاني، الذي هدَّد بإغلاق مضيق هرمز، وحذّر الرئيس ترمب من العبث بذيل الأسد، ملوحاً بـ«أم المعارك»، وهو ما ذكّر الكثيرين بصدام حسين، الذي سبق أن هدد جورج بوش الابن بـ«أم المعارك»، فكان أن جاءه الرد سريعاً من ترمب، الذي حذَّره من توجيه التهديد مجدداً إلى الولايات المتحدة، وإلا فإن «إيران ستواجه تداعيات لم يختبرها سوى قلة عبر التاريخ»!
لندع هذه القرقعة بالتهديدات جانباً، ونتذكر كل ما قيل قبل أسابيع قليلة في أوساط المتشددين في طهران عن مسؤولية روحاني؛ أولاً عن «الاتفاق النووي السيئ» الذي أبرمه مع الدول الست، وثانياً عن مسؤولية حكومته عن الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالوضع في إيران، وكان من نتائجها ارتفاع سعر الدولار من 35 ألف تومان إلى أكثر من 80 ألفاً، وهو ما أشعل المظاهرات في معظم المدن الإيرانية.
في 24 يونيو (حزيران) الماضي، ومع ارتفاع الحديث عن ضرورة تغيير حكومة روحاني أو حتى تعديلها، حذر وزير الخارجية محمد جواد ظريف من دفع الحكومة إلى الاستقالة قائلاً: «لا تعتقدوا أنه لو ذهب روحاني فإن الأصولي سينجح، وعلى البعض ألا يتصوّر أنه سيتسلم الحكم إذا فشل النظام، نحن جميعاً في إيران نجلس في سفينة واحدة؛ من الأصولي والإصلاحي وغير المنتمي والمعارض للنظام وللحكومة»!
كان هذا الكلام دليلاً حسياً على اتساع رقعة الخلاف الداخلي بين تيار المتشددين وتيار الإصلاحيين، ولكن رغم المواجهة الكلامية قبل أسبوعين، بين روحاني والجنرال قاسم سليماني الذي حذّره من تخفيض الموازنات المخصصة لـ«الحرس الثوري»، كان من المثير أنه بعدما «استلحق» روحاني على ما يبدو وضع حكومته، عندما رفع التهديد في وجه ترمب متحدثاً عن «ذيل الأسد»، وإقفال مضيق هرمز، أن علي خامنئي أشاد بموقفه، في حين أرسل إليه سليماني التهاني قائلاً إنه «يقبِّل يديه على مثل هذه التصريحات الحكيمة»، واضعاً نفسه في خدمته لتنفيذ أي سياسة تخدم الجمهورية الإسلامية!
من الواضح أن تهديدات روحاني والردود الأميركية عليها، دفعت في اتجاه محاولة لملمة الصفوف الإيرانية وتجاوز الانقسام، الذي تفاقم على خلفية انفجار الأزمة الاقتصادية والمظاهرات التي وصلت إلى البازارات، وبالإضافة إلى روحاني الذي صار يعتمد لهجة الصقور المتشددين، ها هو محمد جواد ظريف ينضم إلى الصف فيردّ يوم الاثنين الماضي على تهديدات ترمب قائلاً: «كن حذراً... نحن هنا منذ آلاف السنين وشهدنا سقوط إمبراطوريات بما فيها إمبراطوريتنا التي استمرَّت أكثر من بعض البلدان»!
يبدو أن ظريف تناسى تحذيره في 24 يونيو الماضي، من سقوط النظام وتفكيك إيران إذا فشل الاتفاق النووي، موضحاً أن الدول الأوروبية لا تستطيع فعل الكثير من أجل إنقاذ هذا الاتفاق، رغم وعودها بمواصلة العلاقات التجارية من خلال الشركات الصغيرة والمتوسطة، ربما تناسى أيضاً قوله يومها إن الولايات المتحدة أحكمت قبضتها على الشريان الاقتصادي لإيران، وإنها جمّدت أصول إيران من خلال اعتقال رجلَي الأعمال رضا ضراب وعلي صدر هاشمي، اللذين ساعدا طهران على الالتفاف على العقوبات الدولية ضد إيران، من خلال التحويلات غير القانونية لمليارات الدولارات من العملة والذهب إلى النظام الإيراني.
إضافة إلى العقوبات الأميركية التي أدَّت إلى خروج كبريات الشركات الأوروبية من طهران، من منطلق أن مجمل قيمة العقود معها لا تصل إلى 700 مليار دولار، بينما التبادلات مع أميركا تتجاوز 18 تريليون دولار، من الواضح أن واشنطن تعمل على تشجيع معارضي النظام الإيراني.
وفي السياق، نظمت الإدارة الأميركية لقاء للإيرانيين المقيمين في أميركا في مكتبة رونالد ريغان بكاليفورنيا، حضره وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي قال إن واشنطن تستهدف النظام الإيراني على أعلى مستوى، وإن الأمر لن يتوقف عند العقوبات على رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني، بل إن قادة «الحرس الثوري» و«فيلق القدس» يحب أن يدفعوا ثمن قراراتهم.
بومبيو الذي يدعو إلى تغيير النظام الإيراني أكَّد أن «الرئيس روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف مجرد واجهتين برّاقتين على الصعيد الدولي لنظام الملالي المخادع»، بما يفسّر التصعيد الكلامي الذي صدر عنهما، وكشف أن إدارة ترمب تدعم المحتجين الذين يتظاهرون في إيران، وأن «هذا النظام هو كابوس على الشعب الإيراني»، معلناً تعزيز الحملة الدعائية ضد النظام، وإطلاق قناة تلفزيونية وصحافية رقمية ومواقع تواصل اجتماعي، تبثّ على مدار الساعة باللغة الفارسية، لكي يعرف الإيرانيون أن العالم يقف معهم، «والمطلوب أن يغيّر النظام سلوكه في الداخل وعلى الساحة الدولية... ولا فرق بين جناح متشدد وآخر معتدل في النظام الإيراني».
على أساس كل هذا يشدد روحاني في تصريحاته على أن الولايات المتحدة ستبقى عاجزة عن إثارة الشعب الإيراني ضد أمنه ومصالحه، لكن عندما يقول المتحدث باسم الخارجية بهرام قاسمي يوم الاثنين الماضي إن «السياسة الأميركية العدائية ستوحّد الإيرانيين»؛ ففي مضمون هذا الكلام، أن الإيرانيين ليسوا موحَّدين بالفعل، والدليل أن روحاني وحكومته والتيار المعتدل لطالما كانوا موضع انتقادات قاسية، وهو ما دفعه طبعاً إلى التهديد بإغلاق مضيق هرمز، ثم إلى توجيه التحذير إلى ترمب من العبث بذيل الأسد، ما دفع الرئيس الأميركي إلى الردّ: «إيّاك والتهديد مجدداً، لم نعد دولة تتهاون مع كلماتكم المختلة بشأن العنف والموت... احترسوا»!
ولكن إلى أين يقود كل هذا التراشق؟
لا ترمب يمكن أن يشعل حرباً، وهو الذي ينتقد بقسوة غزو بوش للعراق، ولا روحاني ومِن ورائه خامنئي قادران على التورط في مغامرات فوق ورطاتهما الإقليمية، خصوصاً في ظل حرصهما المتمادي على عدم الرد على مسلسل العمليات الإسرائيلية ضدهما، ولهذا فإن الحديث عن إقفال مضيق هرمز مجرد خرافة واهمة، لأن ذلك سيوحد العالم كله وراء ترمب لضرب إيران.
إذن هي عملية عضٍّ تصاعدية على الأصابع، لكن لترمب أنيابه القاطعة ولروحاني أصابعه الطرية، إلا إذا تكررت قصة كوريا الشمالية مع إيران؛ فها هو ترمب يوم الأربعاء الماضي يترك الباب مفتوحاً أمام إمكان التفاوض، ولكن على «اتفاق حقيقي وليس الاتفاق الكارثة الذي توصلت إليه إدارة أوباما»!