الديمقراطية في «متاهة» الإنترنت

الديمقراطية في «متاهة» الإنترنت

المغرب اليوم -

الديمقراطية في «متاهة» الإنترنت

بقلم - راجح الخوري

الحقيقة في قبضة الفوضى، والوقائع رهينة التعميات، والأخبار ليست من الوقائع والأحداث، بل أحياناً من الغرضيات، والتطورات ليست تحت دائرة الضوء، بل يمكن أن تكون أيضاً تحت دائرة الغرف السوداء، والتحليل ليس دائماً نتيجة عامل المعرفة والتأمل، بل قد يصبح نتيجة حتمية لعامل التجهيل والتخريب.

إنه عصر المعرفة العالقة في الشبكة العنكبوتية، وزمن الحقائق التي باتت ضائعة في الغابة الهائلة والغامضة، حيث يصعب معرفة الصادق من الكاذب وتمييز الحقيقي من المزوّر، وفرز الأسود عن الأبيض! لماذا هذه المقدمة المتألمة؟ لسبب بسيط، وهو أننا بتنا في زمن الشموليات المتعارضة والأخبار المتناقضة والأكاذيب المتهافتة، التي من شأنها تضييع الحقائق وضخ التعمية، والسبب العملي في هذا السياق، التراجع التصاعدي الحاد في وسائل الإعلام المكتوبة، وخصوصاً الصحافة اليومية حيث توقفت مثلاً جريدة «السفير» اللبنانية العام الماضي، وتلتها «دار الصياد» قبل أسابيع بعد صدور وازدهار استمرا أكثر من 75 عاماً، ويأتي كل هذا في حين باتت وسائل الاتصال الاجتماعي تسيطر على عمليات نشر الأخبار والتعليقات والصور، في تسابق محموم ودون أي محاولة للتأكّد من صحة ما يبث وينشر.

من هذا المنطلق وعلى أساس هذا الواقع المتداخل، باتت المعرفة الرصينة التي هي أساس الوعي العام، رهينة الغابة ورهينة كل ما يعمل على توجيه خيارات الرأي العام وفق أجندات خاصة وربما مغرضة وأحياناً مخرّبة، كأن يتدخل في خيارات الناس الانتخابية مثلاً كما حصل في الولايات المتحدة، وفي مسألة «بريكست» وفي كثير من الغوغاء الذي دخل على خطوط ما سمي «وثائق ويكيليكس» وأخبار إدوارد سنودن.

في مارس (آذار) من عام 1994 استدعى الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون رؤساء تحرير الصحف الأميركية، وناقش معهم انفجار ثورة المعلومات، بعدما سيطرت الشبكة العنكبوتية العالمية «الإنترنت» على أسس وتوجهات الرأي العام، يومها قال لهم ما معناه... إنه مع انفجار ثورة المعلومات بات المواطن ضائعاً في غابة هائلة من الأخبار والتحليلات، ليس معروفاً ما هو الصحيح من الخاطئ فيها، وإن دوركم في الصحافة هو الإمساك بيد القارئ وإرشاده إلى الطريق الصحيح كي لا يضيع في هذه الغابة الهائلة!

قبل 6 أعوام من ذلك الاجتماع، كان السير تيم بيرنرز لي قد اخترع الإنترنت عام 1989، ولم يكن لا هو ولا بيل كلينتون يظنان يومها أن الشبكة العنكبوتية ستلتهم الصحافة، وتستأثر كمصدر متوحش وطاغٍ بصناعة الرأي العام حول العالم، وترامت الغابة لتشمل معظم دول العالم وبات الذين ضيّعوا الطريق الصحيح فيها، أكثر من الذين وجدوا هذا الطريق!

ومع الإنترنت وطغيان وسائل الاتصال الجماعي، صارت الأنظمة «تفبرك» التزوير سلاحاً سياسياً، و«تفبرك» الكراهيات تسوية للحسابات، وبات كل مواطن يحمل هاتفاً ذكياً مخبراً ومصوراً ومعلقاً، وصارت قواعد تشكّل الرأي العام عرضة للغرضيات مثلاً، وأصبحت المعرفة العامة مصدراً للضرر أحياناً، بينما هي في الأساس مصدر للوعي والتقدم!

ضاعت القواعد وتراجعت الأصول المهنية في تعميم الأخبار وصناعة الرأي العام في شرائح اجتماعية واسعة، حتى وسائل الإعلام المحترمة باتت تعاني من الإغراق الخبري الذي يختلط فيه الصحيح بالكاذب والصادق بالمغرض!

الآن بعد 29 عاماً على اختراع الشبكة العنكبوتية، نقرأ مقابلة أجرتها مجلة «فانتي فير» مع السير بيرنرز لي تحدث فيها عن أسفه وألمه لأن الإنترنت خذلت البشرية ولم تخدمها، مشيراً إلى سلسلة من الفضائح التي اجتاحت الرأي العام عبر الإنترنت، كفضيحة شركة «كامبردج أنالاتيكا» التي تمكنت من التسلل لتجمع معلومات عن 87 مليون إنسان يستخدمون «فيسبوك»، وكفضيحة تدخّل روسيا للتأثير في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وكمسلسل «ويكيليكس» وأخبار إدوارد سنودن وغيرها كثير. بيرنرز لي أعرب عن ألمه، في حديث مع شبكة «بلومبرغ» عندما قال إنه صدم كثيراً لأن الإنترنت يمكن أن تكون وسيلة شريرة عند الذين يستخدمونها للشر، والدليل أن الآلاف من الناشطين الروس وغير الروس فتحوا حسابات كاذبة بأسماء وهمية، وأغرقوا الرأي العام البريطاني للتأثير في اتجاهات «بريكست»، والرأي العام الأميركي لترجيح كفة دونالد ترمب، ربما لأن المصلحة السياسية الروسية تقضي بذلك!

ويرى بيرنرز لي أن الذي جعل الإنترنت تتحوّل إلى وسيلة لتعميم الشرور أحياناً، هي شركات التكنولوجيا العملاقة مثل «غوغل» و«فيسبوك» و«تويتر»، التي تشكّل محطات لمليارات من الناس يمكن النفاذ إليهم عبر هذه البوابات العملاقة.

المثير في الأمر أن بيرنرز لم يستسلم، فهو يعمل الآن كما يقول على منصة جديدة سمّاها «سوليد» (solid) تحاول نزع مركزية الإنترنت وتسمح بتبادل أمين للمعلومات وبسيطرة الناس على خاصية معلوماتهم! ولكنه قد يصاب غداً بخيبة جديدة، ذلك أن شركة «falcon 9» تستعدّ لإطلاق القمر الصناعي «Space X» في مرحلة تجريبية لبث الإنترنت إلى الأرض بشكل مباشر، وسيتم تدشين المشروع السنة المقبلة، بحيث يتمكن أي إنسان على وجه الأرض من التقاط الإنترنت دون حجب أو مراقبة، وسيتمكن كل إنسان من الاتصال صوتاً وصورة بأي شخص في العالم دون الحاجة إلى العبور من بوابات الشركات العملاقة المعروفة.

عندها سيتمكن المرء من مراقبة منزله ومحله وأماكن أفراد أسرته حتى تحديد موقع أي إنسان على وجه الأرض ومحادثته مباشرة، هذا المشروع سيدمر كل شركات الاتصالات المعروفة اليوم، سيلغي «غوغل» و«فيسبوك» و«تويتر»، وغيرها من شركات الاتصال العملاقة، سيضع كل شيء في العالم في متناول المرء، سيموت البريد والصحف والمجلات، وستحلّ عبره خصائص البصمة البشرية في المكاتب وسجلات حضور الطلاب صفوفهم، إذا دخلت أو خرجت يبلغ عنك، وسيحسم من راتبك عندما تتغيب، وبالتالي يراهن أصحاب المشروع على أن يكون هاتفك الذكي سجلك الصحي ومدرستك وبطاقة هويتك، وقد تفرض في المستقبل مخالفات على أي شخص لا يحمل جوّاله.

منذ زمن دخلت الصحافة ووسائل الإعلام المقروءة، حقبة من الضيق والمتاعب ويبدو أن التلفزيون يسير الآن على طريق الصحف، اليوم «you tube» وغدًا العالم كله شاشة حاضرة حيثما تكون وكيفما تريد. يقول آلان روز بريدجر، رئيس تحرير «الغارديان» البريطانية في كتابه الأخير، وعنوانه «أخبار عاجلة... إعادة تشكيل الصحافة»، أعطني صحافة رصينة أعطك الديمقراطية، ولكن الصحافة الرصينة تواجه في زمن عنكبوتية الأخبار التحدي من هذا التسونامي الأعمى الذي يجتاح عالماً، يلجأ فيه مثلاً دونالد ترمب رئيس أكبر ديمقراطية في العالم، إلى حكم أميركا عبر التغريد في «تويتر»، مقاطعاً كل وسائل الإعلام الأميركية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الديمقراطية في «متاهة» الإنترنت الديمقراطية في «متاهة» الإنترنت



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

نجوى كرم بإطلالات استثنائية وتنسيقات مبهرة في "Arabs Got Talent"

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 15:54 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

حورية فرغلي تكشف موقفاً محرجاً بعد عودتها إلى التمثيل
المغرب اليوم - حورية فرغلي تكشف موقفاً محرجاً بعد عودتها إلى التمثيل

GMT 17:36 2012 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

مجموعة للعناية بالشعر وتقويته

GMT 12:24 2018 الأربعاء ,25 إبريل / نيسان

أولمبيك آسفي يخطط لضم 4 لاعبين في الميركاتو

GMT 17:23 2016 الثلاثاء ,12 إبريل / نيسان

مشوار المنتخب السعودي في تصفيات كأس العالم 2018

GMT 02:35 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

عفاف شعيب سيدة شعبية في مسلسل "فوق السحاب"

GMT 19:13 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

Jacob & Co"" تطرح مجموعة جديدة من المجوهرات الفاخرة

GMT 05:15 2018 الأربعاء ,24 كانون الثاني / يناير

موقع الواجهة البحرية في "رامسغيت" يتحول إلى إبداع فني

GMT 10:01 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

آخر الاتجاهات المميزة في عالم الموضة لعام 2018

GMT 05:26 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

أبرز أسباب انتشار قشرة الشعر خلال موسم الشتاء

GMT 15:25 2017 الثلاثاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

إيقاف لاعب كرة إكوادوري أربعة مواسم بسبب المنشطات

GMT 11:31 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

الاسباني فيليبي السادس يستعد لزيارة المملكة المغربية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib